مَنْ يَتَكَبَّرُ فِي بَعْضٍ وَيَتَوَاضَعُ فِي بَعْضٍ، فَمِنْهَا التَّكَبُّرُ بِأَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَمْشِيَ إِلَّا وَمَعَهُ غَيْرُهُ يَمْشِي خَلْفَهُ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَزُورَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْ زِيَارَتِهِ خَيْرٌ لِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ ضِدُّ التَّوَاضُعِ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَنْكِفَ مِنْ جُلُوسِ غَيْرِهِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالتَّوَاضُعُ خِلَافُهُ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَعَاطَى بِيَدِهِ شُغْلًا فِي بَيْتِهِ وَالتَّوَاضُعُ خِلَافُهُ.
رُوِيَ أَنَّ «عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ» أَتَاهُ لَيْلَةً ضَيْفٌ وَكَانَ يَكْتُبُ فَكَادَ السِّرَاجُ يُطْفَأُ، فَقَالَ الضَّيْفُ: أَقُومُ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأُصْلِحُهُ؟ فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ ضَيْفَهُ، قَالَ: أَفَأُنَبِّهُ الْغُلَامَ؟ فَقَالَ: هِيَ أَوَّلُ نَوْمَةٍ نَامَهَا، فَقَامَ وَمَلَأَ الْمِصْبَاحَ زَيْتًا، فَقَالَ الضَّيْفُ: قُمْتَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: ذَهَبْتُ وَأَنَا عمر، وَرَجَعْتُ وَأَنَا عمر مَا نَقَصَ مِنِّي شَيْءٌ، وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَوَاضِعًا.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَأْخُذَ مَتَاعَهُ وَيَحْمِلَهُ إِلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ خِلَافُ عَادَةِ الْمُتَوَاضِعِينَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَالَ «علي» : «لَا يُنْقِصُ الرَّجُلَ الْكَامِلَ مِنْ كَمَالِهِ مَا حَمَلَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى عِيَالِهِ» ، وَمِنْهَا اللِّبَاسُ إِذْ يَظْهَرُ بِهِ التَّكَبُّرُ وَالتَّوَاضُعُ، وَعَلَامَةُ الْمُتَكَبِّرِ فِيهِ حِرْصُهُ عَلَى التَّزَيُّنِ لِلنَّاسِ لِلشُّهْرَةِ وَالْمَخِيلَةِ، وَأَمَّا طَلَبُ التَّجَمُّلِ لِذَاتِهِ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ فَلَيْسَ مِنَ الْكِبْرِ، وَالْمَحْبُوبُ الْوَسَطُ مِنَ اللِّبَاسِ الَّذِي لَا يُوجِبُ شُهْرَةً بِالْجَوْدَةِ، وَلَا بِالرَّدَاءَةِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» ، وَمِنْهَا أَنْ يَتَوَاضَعَ بِالِاحْتِمَالِ إِذَا سُبَّ وَأُوذِيَ وَأُخِذَ حَقُّهُ، فَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَجَامِعُ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّوَاضُعِ سِيرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَمِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَلَّمَ.
وَقَدْ قَالَ «ابن أبي سلمة» : قُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: مَا تَرَى فِيمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الْمَلْبَسِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَرْكَبِ وَالْمَطْعَمِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي كُلْ لِلَّهِ، وَاشْرَبْ لِلَّهِ، وَالْبَسْ لِلَّهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَخَلَهُ زَهْوٌ أَوْ مُبَاهَاةٌ أَوْ رِيَاءٌ أَوْ سُمْعَةٌ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ وَسَرَفٌ، وَعَالِجْ فِي بَيْتِكَ مِنَ الْخِدْمَةِ مَا كَانَ يُعَالِجُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ: كَانَ يَحْلِبُ الشَّاةَ، وَيَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيُرَقِّعُ الثَّوْبَ، وَيَأْكُلُ مَعَ خَادِمِهِ، وَيَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنَ السُّوقِ، وَلَا يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِيَدِهِ، يُصَافِحُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَيُسَلِّمُ مُبْتَدِئًا عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَقْبَلَهُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، يُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَلَا يُحَقِّرُ مَا دُعِيَ إِلَيْهِ، لَيِّنُ الْخُلُقِ، جَمِيلُ الْمُعَاشَرَةِ، طَلِيقُ الْوَجْهِ، شَدِيدٌ فِي غَيْرِ عُنْفٍ، مُتَوَاضِعٌ فِي