عَلَاقَتَيْنِ: عَلَاقَةٌ مَعَ الْقَلْبِ، وَهُوَ حُبُّهُ لَهَا، وَحَظُّهُ مِنْهَا، وَانْصِرَافُ هَمِّهِ إِلَيْهَا، حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالْعَبْدِ أَوِ الْمُحِبِّ الْمُسْتَهْتِرِ بِالدُّنْيَا، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْعَلَاقَةِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْقَلْبِ الْمُعَلَّقِ بِالدُّنْيَا، كَالْكِبْرِ، وَالْغِلِّ، وَالْحَسَدِ، وَالرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ، وَالْمُدَاهَنَةِ، وَحُبِّ الثَّنَاءِ، وَحُبِّ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ، وَهَذِهِ هِيَ الدُّنْيَا الْبَاطِنَةُ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهِيَ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ الْبَدَنِ، وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِصْلَاحِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ؛ لِتَصْلُحَ لِحُظُوظِهِ وَحُظُوظِ غَيْرِهِ، وَهِيَ جُمْلَةُ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ الَّتِي الْخَلْقُ مَشْغُولُونَ بِهَا. وَالْخَلْقُ إِنَّمَا نَسُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَآبَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ بِالدُّنْيَا لِهَاتَيْنِ الْعَلَاقَتَيْنِ: عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِالْحُبِّ، وَعَلَاقَةِ الْبَدَنِ بِالشُّغْلِ، وَلَوْ عَرَفَ نَفْسَهُ، وَعَرَفَ رَبَّهُ، وَعَرَفَ حِكْمَةَ الدُّنْيَا وَسِرَّهَا - عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا دُنْيَا لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لِقَوَامِهِ؛ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى إِصْلَاحِ دِينِهِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْقَلْبُ مِنْ شُغْلِ الْبَدَنِ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكُنْهِ هِمَّتِهِ، وَبَقِيَ مُلَازِمًا لِسِيَاسَةِ الشَّهَوَاتِ وَمُرَاقِبًا لَهَا، حَتَّى لَا يُجَاوِزَ حُدُودَ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى، وَلَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاقْتِدَاءِ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَصْدِ، وَعَلَى السَّبِيلِ الْوَاضِحِ، فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، بَلْ لِلدِّينِ، وَمَا كَانُوا يَتَرَهَّبُونَ وَيَهْجُرُونَ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا كَانَ لَهُمْ فِي الْأُمُورِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ، بَلْ كَانَ أَمْرُهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ وَالْوَسَطُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ أَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.