يُحَسِّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُعَادَاةِ مَعَ صَاحِبِهِ. نَعَمْ مَنِ ابْتُلِيَ بِمُرَاعَاةِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فِي قَوْلٍ مَا لِضَرُورَةٍ وَخَافَ مِنْ تَرْكِهِ - فَهُوَ مَعْذُورٌ؛ فَإِنَّ اتِّقَاءَ الشَّرِّ جَائِزٌ، قَالَ " أَبُو الدَّرْدَاءِ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِنَّا لَنُكَشِّرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ ". وَقَالَتْ " عائشة ": " اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ هُوَ ". ثُمَّ لَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ، فَقَالَ: " يَا عائشة، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ الَّذِي يُكْرَمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ " وَلَكِنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْإِقْبَالِ وَفِي الْكَشْرِ وَالتَّبَسُّمِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الثَّنَاءُ، وَلَا التَّصْدِيقُ، وَلَا تَحْرِيكُ الرَّأْسِ فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ بَاطِلٍ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُنَافِقٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَيَسْكُتُ بِلِسَانِهِ وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ، وَلِلضَّرُورَاتِ حُكْمُهَا.
وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَمَّا الذَّمُّ فَهُوَ الْغِيبَةُ وَالْوَقِيعَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا، وَالْمَدْحُ يَدْخُلُهُ سِتُّ آفَاتٍ: أَرْبَعٌ مِنَ الْمَادِحِ، وَاثْنَتَانِ فِي الْمَمْدُوحِ، فَأَمَّا الْمَادِحُ:
فَالْأُولَى: أَنَّهُ قَدْ يُفْرِطُ فِيهِ فَيَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْكَذِبِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ، فَإِنَّهُ بِالْمَدْحِ مُظْهِرٌ لِلْحُبِّ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مُضْمِرًا وَلَا مُعْتَقِدًا لِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ، فَيَصِيرُ بِهِ مُرَائِيًا مُنَافِقًا.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَقُولُ مَا لَا يَتَحَقَّقُهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاطْلَاعِ عَلَيْهِ.
وَالرَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَفْرَحُ الْمَمْدُوحُ وَهُوَ ظَالِمٌ أَوْ فَاسِقٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، قَالَ «الحسن» : «مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِطُولِ الْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ فِي الْأَرْضِ» .
وَأَمَّا الْمَمْدُوحُ فَيَضُرُّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحْدِثُ فِيهِ كِبْرًا وَإِعْجَابًا، وَهُمَا مُهْلِكَانِ.
الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ فَرِحَ، وَفَتَرَ، وَرَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَلَّ تَشْمِيرُهُ لِلْعَمَلِ، فَإِنْ سَلِمَ الْمَدْحُ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ فِي حَقِّ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ، لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ.
وَعَلَى الْمَمْدُوحِ أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ آفَةِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَآفَةِ الْفُتُورِ، وَيَتَذَكَّرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمَادِحُ، وَأَنَّهُ لَوِ انْكَشَفَ لَهُ جَمِيعُ أَسْرَارِهِ وَمَا يَجْرِي عَلَى خَوَاطِرِهِ لَكَفَّ الْمَادِحُ عَنْ مَدْحِهِ، وَكَانَ «علي» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ» . وَعَلَى الْمَادِحِ أَنْ لَا يَجْزِمَ الْقَوْلَ إِلَّا بَعْدَ خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ، سَمِعَ «عمر» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: «أَسَافَرْتَ مَعَهُ» ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: «أَخَالَطْتَهُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ» ؟ قَالَ: «لَا» قَالَ: فَأَنْتَ جَارُهُ صَبَاحَهُ وَمَسَاءَهُ؟ قَالَ: «لَا» ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا أُرَاكَ تَعْرِفُهُ» .
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ لَا بُدَّ مَادِحًا أَخَاهُ فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ فُلَانًا وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا» .