وَالْعُدْوَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [الْمَائِدَةِ: 63] فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَثِمُوا بِتَرْكِ النَّهْيِ، وَقَالَ تَعَالَى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) [هُودٍ: 116] الْآيَةَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَ جَمِيعَهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ، وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النِّسَاءِ: 135] وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النِّسَاءِ: 114] .
وَمِنَ الْأَخْبَارِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ عَمِلُوا بِالْمَعَاصِي وَفِيهِمْ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ» وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا لَا يُحْصَى. وَبِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَظْهَرُ كَوْنُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبًا، وَأَنَّ فَرْضَهُ لَا يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ إِلَّا بِقِيَامٍ قَائِمٍ بِهِ.
الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ مُنْكَرًا وَهُوَ مَا كَانَ مَحْذُورَ الْوُقُوعِ فِي الشَّرْعِ، وَلَفْظُ الْمُنْكَرِ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ الْخَمْرَ، وَكَذَا إِنْ رَأَى مَجْنُونًا يَزْنِي بِمَجْنُونَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ. وَلَا يَخْتَصُّ الْمُنْكَرُ بِالْكَبَائِرِ، بَلْ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَمَّامِ وَالْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِتْبَاعُ النَّظَرِ لِلنِّسْوَةِ الْأَجْنَبِيَّاتِ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهَا.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ ظَاهِرًا بِغَيْرِ تَجَسُّسٍ، فَكُلُّ مَنْ سَتَرَ مَعْصِيَةً فِي دَارِهِ وَأَغْلَقَ بَابَهُ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِتُعْرَفَ الْمَعْصِيَةُ وَلَا أَنْ يُتَجَسَّسَ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَجَسَّسُوا) [الْحُجُرَاتِ: 12] وَكَذَا لَوْ رُئِيَ فَاسِقٌ وَتَحْتَ ذَيْلِهِ شَيْءٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكْشَفَ عَنْهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ مُنْكَرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَكُلُّ مَا هُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا نُكْرَانَ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلْحَنَفِيِّ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الشَّافِعِيِّ مَا هُوَ مِنْ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ، يَعْنِي الْمَسَائِلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ؛ إِذْ لَا يُعْلَمُ خَطَأُ الْمُخَالِفِ قَطْعًا بَلْ ظَنًّا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. وَكَذَا إِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَى الْفِرَقِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي خَطَئِهِمُ الْمَعْلُومِ عَلَى الْقَطْعِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فِي مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ.