تَحَمُّلِ أَذَاهُمْ كَسْرًا لِلنَّفْسِ وَقَهْرًا لِلشَّهَوَاتِ فَهِيَ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي تُسْتَفَادُ بِالْمُخَالَطَةِ.
وَأَمَّا الِاسْتِئْنَاسُ وَالْإِينَاسُ: فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِأَمْرِ الدِّينِ وَذَلِكَ فِيمَنْ يُسْتَأْنَسُ بِمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِحَظِّ النَّفْسِ. وَيُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَرْوِيحَ الْقَلْبِ لِتَهْيِيجِ دَوَاعِي النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ إِذَا كُرِبَتْ عَمِيَتْ، وَالنَّفْسُ لَا تَأْلَفُ الْحَقَّ عَلَى الدَّوَامِ مَا لَمْ تُرَوَّحْ، وَفِي تَكْلِيفِهَا الْمُلَازَمَةَ دَاعِيَةٌ لِلْفَتْرَةِ، وَقَدْ قَالَ «ابْنُ عَبَّاسٍ» : «لَوْلَا مَخَافَةُ الْوَسْوَاسِ لَمْ أُجَالِسِ النَّاسَ» فَلَا يَسْتَغْنِي الْمُعْتَزِلُ إِذَنْ عَنْ رَفِيقٍ يَسْتَأْنِسُ بِمُشَاهَدَتِهِ وَمُحَادَثَتِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَاعَةً، فَلْيَجْتَهِدْ فِي طَلَبِ مَنْ لَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ فِي سَاعَتِهِ تِلْكَ سَائِرَ سَاعَاتِهِ، فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» . وَلْيَحْرِصْ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالْقُصُورِ عَنِ الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ، فَفِي ذَلِكَ مُتَرَوَّحٌ لِلنَّفْسِ وَفِيهِ مَجَالٌ رَحْبٌ لِكُلِّ مَشْغُولٍ بِإِصْلَاحِ نَفْسِهِ.
وَأَمَّا نَيْلُ الثَّوَابِ: فَبِحُضُورِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ أَيْضًا، لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهِ إِلَّا لِخَوْفِ ضَرَرٍ ظَاهِرٍ يُقَاوِمُ مَا يَفُوتُ مِنْ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَّفِقُ إِلَّا نَادِرًا. وَكَذَلِكَ فِي حُضُورِ الْإِمْلَاكَاتِ وَالدَّعَوَاتِ ثَوَابٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِدْخَالُ سُرُورٍ عَلَى قَلْبِ مُسْلِمٍ.
وَأَمَّا إِنَالَةُ الثَّوَابِ: فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ بِعِيَادَتِهِ وَتَعْزِيَتِهِ فِي الْمَصَائِبِ وَتَهْنِئَتِهِ عَلَى النِّعَمِ فَإِنَّهُمْ يَنَالُونَ بِذَلِكَ ثَوَابًا. فَيَنْبَغِي أَنَّ يَزِنَ ثَوَابَ هَذِهِ الْمُخَالَطَاتِ بِآفَاتِهَا الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ تُرَجَّحُ الْعُزْلَةُ وَقَدْ تُرَجَّحُ الْمُخَالَطَةُ.
وَأَمَّا التَّوَاضُعُ: فَإِنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَقَامَاتِ وَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ فِي الْوَحْدَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْكِبْرُ سَبَبًا فِي اخْتِيَارِ الْعُزْلَةِ، أَوْ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُوَقَّرَ فِي الْمَحَافِلِ أَوْ لَا يُقَدَّمَ، أَوْ يَرَى التَّرَفُّعَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ أَرْفَعَ لِمَحَلِّهِ وَأَبْقَى عَلَى اعْتِقَادِ النَّاسِ فِي تَعَبُّدِهِ وَزُهْدِهِ، وَعَلَامَةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُزَارُوا وَلَا يُحِبُّونَ أَنْ يَزُورُوا، وَيَفْرَحُونَ بِتَقَرُّبِ الْعَوَامِّ وَالْأُمَرَاءِ إِلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يُبَغِّضُ إِلَيْهِ الْمُخَالَطَةَ وَزِيَارَةَ النَّاسِ لَبُغِّضَ إِلَيْهِ زِيَارَاتُهُمْ لَهُ، وَلَكِنَّ اعْتِزَالَهُ سَبَبُهُ شِدَّةُ اشْتِغَالِهِ بِالنَّاسِ لِأَنَّ قَلْبَهُ مُتَجَرِّدٌ لِلِالْتِفَاتِ إِلَى نَظَرِهِمْ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْوَقَارِ وَالِاحْتِرَامِ. وَالْعُزْلَةُ بِهَذَا السَّبَبِ جَهْلٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوَاضُعَ وَالْمُخَالَطَةَ لَا تَنْقُصُ عَنْ مَنْصِبِ مَنْ هُوَ مُتَكَبِّرٌ بِعِلْمِهِ أَوْ دِينِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي شَغَلَ نَفْسَهُ بِطَلَبِ رِضَاءِ النَّاسِ عَنْهُ وَتَحْسِينِ اعْتِقَادِهِمْ فِيهِ مَغْرُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ اللَّهَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ عَلِمَ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يُغْنُونَ عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأَنَّ ضَرَرَهُ وَنَفْعَهُ بِيَدِ اللَّهِ، بَلْ رِضَاءُ النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُنَالُ، فَرِضَاءُ اللَّهِ أَوْلَى بِالطَّلَبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ ليونس بن عبد الأعلى: «وَاللَّهِ مَا أَقُولُ لَكَ إِلَّا نُصْحًا، إِنَّهُ لَيْسَ إِلَى السَّلَامَةِ مِنَ النَّاسِ مِنْ سَبِيلٍ فَانْظُرْ مَاذَا