الجن حين بعث الله رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء مُلئَت حرسًا شديدًا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك؛ لئلا يسترقوا شيئًا من القرآن. فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق. وهذا من لطف الله بخلقه ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قال الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أي: من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه وقال - عز وجل -: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 7 - 10].
ثالثًا: حفظ القرآن الكريم على الأرض والعناية بحفظه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -:
لقد حفظ الله - عز وجل - القرآن الكريم على الأرض بواسطة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي استقبله فأحسن الاستقبال، وحفظه أتم حفظ، وقام به خير قيام، وبلَّغه أحسن بلاغ والشواهد على ذلك كثيرة منها:
1 - بلغ من حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على استظهار القرآن وحفظه أنه كان يحرك لسانه فيه في أشد حالات حرجه وشدته؛ وهو يعاني ما يعانيه من الوحي وسطوته، وجبريل في هبوطه عليه بقوته، يفعل الرسول كل ذلك استعجالا لحفظه وجمعه في قلبه، مخافة أن تفوته كلمة أو يفلت منه حرف، وما زال كذلك حتى طمأنه ربه بأن وعده أن يجمعه له في صدره، وأن يسهل له قراءة لفظه وفهم معناه. عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه. فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما. وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما؛ فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)