إلا بعد نظرين صحيحين:

الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، ونقصها وخستها، وألم الكد فيها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف.

فطالب الدنيا لا ينفك من همّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها وفراقها.

الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بدّ، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، وما فيها من النعيم المقيم.

فإذا تم للعبد هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، وكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل، واللذة الحاضرة، إلى الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل.

فإذا آثر العبد الفاني الناقص على الباقي الكامل كان ذلك:

إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان، وضعف العقل والبصيرة.

فالراغب في الدنيا، الحريص عليها، إما أن يصدِّق بأن ما هناك في الآخرة أشرف وأفضل وأبقى وإما أن لا يصدق.

فإن لم يصدق كان عادماً للإيمان رأساً.

وإن صدق ذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل، سيئ الاختيار لنفسه.

فإن إيثار الدنيا على الآخرة، إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما، وقد قال خالقها عنها: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)} [الرعد: 26].

وقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015