وأيضا فإنه سبحانه خلق خلقه أطواراً وأصنافاً، وفضَّل آدم وذريته على كثير من مخلوقاته، وجعل عبوديته أفضل درجاتهم، وجعلها لأنبيائه ورسله وأتباعهم.
فاقتضت حكمته سبحانه أن أسكن آدم وذريته داراً ينالون فيها هذه الدرجة العالية، بكمال طاعتهم له، وتقربهم إليه بمحابه، وترك مألوفاتهم من أجله، فكان ذلك من تمام نعمته عليهم، وإحسانه إليهم.
وكذلك الله سبحانه أراد أن يعرف عباده الذين أنعم عليهم تمام نعمته عليهم، ويعرفهم قدرها، ليكونوا أعظم محبة له، وأكثر شكراً له، بما أعطاهم من النعيم.
فأراهم سبحانه فعله بأعدائه، وما أعدلهم من العذاب، وأشهدهم تخليصهم من ذلك، وتخصيصهم بأعلى أنواع النعيم، ليزداد سرورهم، وتكمل غبطتهم، ويعظم فرحهم.
ولم يكن بدّ في ذلك من إنزالهم إلى الأرض وامتحانهم، وتوفيق من شاء منهم رحمة منه وفضلاً، وخذلان من شاء منهم حكمة منه وعدلاً، وهو الحكيم العليم.
وهو سبحانه خلق الخلق لعبادته، وكمال العبودية لا يحصل في دار النعيم والبقاء، إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء.
وأما دار البقاء فدار لذة ونعيم، لا دار امتحان وابتلاء.
وأيضاً فإنه سبحانه اقتضت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والغضب، وداعي العقل والعلم، فخلق في البشر داعي العقل والشهوة ليتم مراده.
فاقتضت حكمته ورحمته أن أذاق أباهم وبيل مخالفته، وعرفه ما جنت عليه شهوته وهواه، ليكون أعظم حذراً فيها، وأشد هروباً.
فمن تمام نعمة الله على آدم - صلى الله عليه وسلم - وذريته، أن أراهم ما فعل العدو بهم وبأبيهم، ليستعدوا له ويحذروه، ويأخذوا أهبتهم منه.
فإن قيل: كان من الممكن ألا يسلط عليهم العدو؟