والصهيونية، في رؤيتها لتواريخ الجماعات اليهودية وفي برنامجها السياسي، متمركزة تمركزاً يهودياً تاماًً. فهي في قراءتها هذه التواريخ تراها تاريخاً يهودياً واحداً ذا مركز يهودي واحد وحسب ويعبِّر عن نفسه من خلال حركيات يهودية. وبالتالي، فإن موسى بن ميمون ليس مفكراً عربياً يؤمن باليهودية، تفاعل مع التراث العربي الإسلامي وتأثر به، بل هو أحد العلماء الدينيين اليهود وحسب. ويُنظَر إليه لا في علاقته بمحيطه الحضاري وإنما في علاقته بالعلماء اليهود في البلاد الأخرى، مع أن بعضهم عارض النزعة العقلانية التي كان يمثلها، بل كفَّره بعض هؤلاء وطلبوا من محاكم التفتيش حرق أعماله.
ومن أهم الأمثلة على ذلك واقعة ليو فرانك، وهو يهودي أمريكي عاش في جنوبي الولايات المتحدة وحوكم بتهمة اغتصاب فتاة مسيحية وقتلها، ولكنه بُرِّئ من تهمته فاختطفه بعض المتظاهرين وشنقوه وعلقوه من قدميه. وهذه العملية تُسمَّى في الإنجليزية الأمريكية «لينشينج lynching» . ويأتي ذكر هذه الواقعة في الدراسات التي تتناول تاريخ الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بطريقة توحي بأنها نمط متكرر وبأن أعضاء الجماعة كانوا ضحايا القمع العنصري في الجنوب.
ولكن الحقائق التاريخية العامة تقول إن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا مندمجين تماماً في محيطهم الحضاري الأمريكي وأن عدد الزنوج الذين قُتلوا بطريقة اللينشينج في الفترة من 1889 إلى 1918 يبلغ ألفين وخمسمائة، بينما لا يزيد عدد الضحايا اليهود في الفترة نفسها على فرد واحد فقط هو ليو فرانك نفسه.
ويُنظَر إلى الشتتل والجيتو من هذا المنظور، فهما من وجهة النظر اليهودية مؤسستان يهوديتان تعبِّران عن رغبة اليهود في الاستقلال القومي، ولا تُعتبران من المؤسسات الإقطاعية أو طريقتين من طرق الإدارة التي كانت تُطبَّق على أعضاء الجماعات اليهودية وغير اليهودية دون تمييز أو استثناء.