إن ما حدث ليس معجزة بقاء وإنما هو استمرار وجمود لدال (اليهود واليهودية) مع تَغيُّر وتَبعثر في المدلولات. فكلمة «يهودية» التي كانت تشير إلى نسق ديني يتسم بحد أدنى من الوحدة أصبحت تشير إلى عدد هائل من الحركات الدينية التي لا يربطها رابط. وكذلك فإن مصطلح «يهودي» أصبح يشير إلى مجموعات غير متجانسة من البشر. إن بقاء اليهود بهذا المعنى لا يختلف مثلاً عن بقاء الدماهرة (أهل دمنهور) ، وهي مدينة مصرية في دلتا النيل استمرت منذ بداية التاريخ البشري تحمل نفس الاسم وتوجد في نفس المكان، ومع هذا لا توجد علاقة كبيرة بين الدمنهوري العربي المسلم المعاصر والدمنهوري الذي عاش في نفس المدينة منذ آلاف السنين في المدينة التي سُمِّيت باسم الإله حوريس التي يُقال إنه وُلد فيها أو بالقرب منها وسُمِّيت باسمه، فكلمة «دمن» معناها «مدينة» ، وكلمة «هور» من كلمة «حوريس» ، فهي إذن مدينة الإله حوريس الذي لا يعرف أهل دمنهور عنه شيئاً!

ولكن حتى لو أخذنا بالمقولة الصهيونية القائلة بمعجزة البقاء هذه، فإننا نجد أنها ليست حالة مقصورة على الجماعات اليهودية، فالبقاء الصيني مثلاً مستمر وثابت يهتز بجواره هذا البقاء اليهودي. وإذا نظرنا إلى التشكيل الحضاري السامي ككلٍّ آخذ في التشكل، فإننا سنجد أن المرحلة البابلية الآشورية وما يتبعها من مراحل وتشكيلات (مثل الفينيقيين والآراميين والكنعانيين وغيرهم) إنما هي مراحل وتشكيلات أولية وسديمية في التاريخ العربي أخذت في التبلور إلى أن عبَّرت عن نفسها من خلال التراث العربي الإسلامي الذي حافظ على سماته الأساسية منذ ذلك الحين. وبالتالي، فإن الشعوب المعاصرة للعبرانيين لم تختف وإنما استمرت وبقيت، وأخذ استمرارها وبقاؤها أشكالاً مختلفة متجانسة وغير متجانسة وصلت إلى تَحدُّدها الأخير في التشكيل الحضاري العربي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015