الحضارية ظهرت لتكون بمنزلة مكان الاستقرار الإنساني، فإنها تصبح سجناً له ( «سجن المستقبل» على حد قول زيميل) . ولذا، يقول بعض مؤرخي علم الاجتماع الغربي إن زيميل هو مؤسس سوسيولوجيا ما بعد الحداثة، إذ أدرك أنها حضارة الوفرة وفائض السلع التي تفوق مقدرة الإنسان على هضمها واستيعابها، وأنها حضارة تطمح إلى التحكم في الواقع وتنتهي إلى العكس.

وهذا هو الإطار الذي تدور فيه دراسة زيميل للنقود، فهو يرى أن ماركس أخطأ تماماً حينما تصوَّر أن النقود مقولة اقتصادية وحسب، ومن ثم أهمل سماتها الأخرى ووظائفها الرمزية. فالنقود مجردة وغير شخصية، ولذا فإن عملية التبادل التي تتم من خلال النقود مختلفة تماماً عن عملية التبادل المباشرة التي تتم من خلال المقايضة. فالنقود مجردة، ومن ثم فإنها تنمي الاتجاه نحو الحسابات الرشيدة الدقيقة، سواء في التبادل الاقتصادي أو في العلاقات الإنسانية. وهي طريقة تحويل الذاتي إلى موضوعي، والمباشر إلى غير مباشر، والمتعيِّن إلى مجرد، والخاص إلى عام. ولذا، حينما يسود الاقتصاد النقدي، نجد أن العلاقات الشخصية المغروسة في العواطف العامة تَضمُر وتذوي لتحل محلها علاقات غير شخصية محدَّدة بهدف محدَّد. ومن ثم تبدأ الحسابات المجردة تغزو كل مجالات الحياة الاجتماعية ويبدأ الإنسان في تحويل كل شيء إلى كم بما في ذلك رؤيته سمات الآخرين الكيفية وعلاقاته معهم. ومن ثم، فإن النقود هي الآلية الكبرى في تحويل الجماعة المترابطة (التراحمية أو التكافلية) إلى مجتمع تعاقدي، فهي تُقسِّم التجربة الإنسانية إلى ذرات مبعثرة فيتحوَّل الفرد إلى ذرة مستقلة ويتم تنميط كل أشكال الاختلاف ويتشيِّأ الوعي، وهي في النهاية تؤدي إلى ترشيد المجتمع والعلاقات الإنسانية. وقد بيَّن زيميل أيضاً أن ثمة ترابطاً بين تزايد استخدام النقود في المجتمع وتصاعد معدلات الترشيد وزيادة هيمنة المناهج العلمية والطبيعية في دراسة ظاهرة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015