ولعبت اليهودية بوصفها ديانة توحيدية دوراً أساسياً في عملية الترشيد هذه. إذ تضع الديانات التوحيدية مسافة بين الخالق والمخلوق. ولذا، لم يَعُد هدف المؤمن هو الاتزان مع الدنيا (عالم الطبيعة) كما هو الحال في الديانات الحلولية وإنما التحكم فيها. هذه المحاولة للتحكم في كل العالم بكل تفاصيله، باسم مثل أعلى مُوحَّد، هي خطوة أولى نحو الترشيد، إذ لا يتعامل المرء مع الواقع على أساس ارتجالي وإنما يتعامل معه بشكل متكامل. وهذا ترشيد تقليدي مُتوجِّه نحو القيمة التي تحددها المعايير الأخلاقية المطلقة، ولكن هذا النوع من الترشيد حل محله الترشيد الحديث، وهو الترشيد المتحرِّر من القيم، والمتوجه نحو أي هدف يحدده الإنسان بالطريقة التي تروقه أو حسبما تمليه عليه رغباته أو مصلحته. فالترشيد التقليدي كان يتم في إطار المطلق الديني، أما الترشيد الحديث فلا علاقة له بأيِّ مطلق ويتم في إطار نسبي كامل، ولذا نسميه «الترشيد الإجرائي» (ويُسمَّى أيضاً «الترشيد الأداتي» ) .

ولكن فيبر يرى أن اليهودية لم تصل بعملية الترشيد إلى نهايتها المنطقية، ومن ثم لم يلعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً مهماً ومركزياً في تطوُّر الرأسمالية. أي أن فيبر ـ على عكس سومبارت ـ يقول إن الجماعات اليهودية لم تساهم بشكل مباشر وأساسي في نشوء الرأسمالية الرشيدة حتى وإن كان لها إسهامها غير المباشر من خلال عناصر الترشيد الموجودة في النسق الديني (وبخاصة كتب الأنبياء) ومن خلال تقويضها دعائم المجتمع التقليدي بإدخال عناصر اقتصاد التبادل. ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:

1 ـ لم يكن تَوجُّه اليهود إلى هذه الحياة الدنيا بحدة تَوجُّه الجماعات البيوريتانية البروتستانتية التي جعلت هزيمة العالم وتَراكُم الثروة شاهداً على الرضا الإلهي، وهو تَوجُّه أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهور المجتمع العلماني الرأسمالي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015