ورغم أن الإبادة هي إحدى ثمرات النازية والعلم المنفصل عن القيمة، فإن عملية أيقنة الإبادة تصاحبها عملية أخرى، وهي عملية تهميش النازية ومنظومتها القيمية رؤيتها للكون، بحيث تصبح النازية وجرائمها مجرد انحراف عن الحضارة الغربية. والتخلي عن هذا الإطار (الذي يُأيقن الإبادة ويُهمِّش النازية) سيكشف فضيحة الحضارة الغربية ومسئوليتها عن هذه الجريمة البشعة المنظمة وعن غيرها من الجرائم التي هي جزء من نمط عام متكرر.

وفي هذه الإطار يمكن فهم الحرج الزائد الذي يسببه اكتشاف تورط كثير من الشخصيات الفكرية الأساسية في الحضارة الغربية (مثل هايدجر) مع النازيين، ومحاولة إخفاء هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق (مثل تلكؤ أيزنهاور في ضرب القطارات التي كانت تقل اليهود إلى معسكرات الاعتقال والسخرة، ورفض الدول الغربية فتح أبوابها للمهاجرين) . فإبراز تورط هايدجر وغيره قد يشير إلى تورط الحضارة بأسرها وقد يقوض المعنى الغربي المفروض على الإبادة.

2 ـ لا يمكن إنكار الدور الذي يلعبه شعور الغربيين بالذنب تجاه ما حدث لليهود على يد النازيين. ولكن الإحساس بالذنب هنا يوجه نحو الأيقونة (الفريدة التي تشير إلى ذاتها) ومن ثم يتحول من إحساس خُلقي عميق ورغبة في إقامة العدل إلى حالة شعورية تدغدغ الأعصاب بل إلى مصدر راحة، إذ يمكن للإنسان الغربي أن يهنئ نفسه بأنه لا يزال يمارس مثل هذه المشاعر النبيلة. وبدلاً من أن يحفز الشعور بالذنب الإنسانَ الغربي إلى التصدي لما يجري في العالم من عمليات إبادة (تقوم بها حكوماته أو تقف موقف «الحياد» تجاهها) فإنه يتجه نحو تأكيد تفرد الهولوكوست والمبالغة في أهوالها، وبالتالي يتحول الحس الخُلقي إلى حس جمالي أو حالة شعورية لا تُترجم نفسها أبداً إلى فعل فاضل؛ إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وأيقنة الإبادة بذلك تغطي على ما يجري من مذابح سواء في فيتنام أو البوسنة والهرسك أو الشيشان أو لبنان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015