وبعد أن تم تعريف الإبادة بهذه الطريقة، وبعد أن تم التلاعب بالمستويات التعميمية والتخصيصية وضبطها بما يتفق مع مصلحة الغرب، قام الغرب بأيقنة الإبادة، أي جعلها مثل الأيقونة تشير إلى ذاتها حتى لا يمكن التساؤل بشأنها، فهي مصدر المعنى النهائي. وكما قال دان داينر إن أوشفيتس هي أرض لا يمتلكها أحد، هي فراغ يبتلع كل التفسيرات التاريخية (فهو يشبه الثقوب السوداء التي تتحطم فيها قوانين الضوء والزمان) . فأوشفتس هو "المعيار المطلق الذي يُحكَم من خلاله على التاريخ، ولا يمكن أن يصبح هو نفسه جزءاً من التاريخ"، وهو كلام لا معنى له بطبيعة الحال، فأوشفيتس حدث تاريخي، وقع في الزمان، ولا يصلح أن يكون معياراً أخلاقياً أو تاريخياً يُحكم به على كل الأمور الإنسانية في كل زمان ومكان (ألا يشكل هذا قمة التمركز الأوربي حول الذات [بالإنجليزية: إيورو سنترستي صلى الله عليه وسلمuro-Centricity] ) . ولكن مثل هذا الكلام الأجوف له معنى داخل الخطاب الحضاري الغربي بسبب عملية الأيقنة التي أشرنا لها (وتجدر ملاحظة أن الأيقنة ليست مقصورة على المفكرين اليهود وإنما تشمل أعداداً كبيرة من غير اليهود) . فالإبادة بهذا المعنى أصبحت من المسلمات، التي تُشكِّل فَهْم الإنسان الغربي المسبق، شأنها في هذا شأن مقولة " عبء الرجل الأبيض " في القرن التاسع عشر، وشأن إحساس الغرب بمركزيته في القرن العشرين أو الإيمان بالتقدم المادي وتحقيق الذات باعتبارهما الغاية النهائية لوجود الإنسان في الأرض. والمسلمات هي الركيزة الأساسية للنموذج، فهي التي تحدد حلاله وحرامه، وما هو مقدَّس وما هو مدنَّس. ومن ثم أصبح التساؤل بشأن الإبادة هو تساؤل بشأن إحدى المسلمات (المقدسات أو المطلقات، إن شئت) وهو ما لا يمكن لأية حضارة، مهما بلغت من سعة صدر وليبرالية وتعددية قبوله.