لم توجد أمة من الأمم إلا وكان لها دين تدين به، وعبادة تلتزم بها، كما تقدم بأن الأديان نوعان: دين التوحيد وهو سماوي، وأديان وضعية شركية، وقد زعم الملحدون: أن الشرك كان أسبق في الوجود على الأرض من التوحيد، وهو قول مبني على إنكارهم للخالق جل وعلا، وزعمهم أن الإنسان إنما وجد من الطبيعة حيث كان أميبا، ثم تطور بفعل الرطوبة حتى وصل بعد أزمان عديدة إلى صورة القرد، ثم تطور فصار القرد إنساناً، فزعموا أن هذا الإنسان- وكان في ذلك الوقت في طور الطفولة البشرية- أخذ يبحث عن إله يعبده، فتوجه إلى عبادة الآباء والأجداد، والأشجار، والحيوانات الضخمة، والشمس، والقمر، إلى غير ذلك من الأشياء التي يستعظمها في نفسه، ثم بدأ هذا الإنسان يتطور في عقله وأحاسيسه، فبدأ يتخلى عن كثير من الآلهة التي كان يعبدها حتى توصل في عهد الفراعنة إلى التوحيد، ولا يعني ذلك عندهم عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما عبادة إله واحد وهو) رع (في زعمهم الذي يرمز له بقرص الشمس، ظاهر من هذا القول أن أصحابه يزعمون أن الأديان من صنع البشر وليست من قبل الله عز وجل،
والعجيب أن يوافقهم على هذا القول بعض المنتسبين للإسلام كالعقاد في كتابه (الله جل جلاله) وعبد الكريم الخطيب في كتابه (قضية الألوهية بين الفلسفة والدين) وقد زعم أصحاب هذا القول أن لهم عليه دليلين:
أولا: القياس على الصناعة، فكما أن الإنسان قد تطور في صناعته، فهو كذلك تطور في ديانته.
ثانياً: أن حفريات الآثار دلتهم على أن الناس وقعوا في الشرك وتعدد الآلهة، وأن الإنسان عرف التوحيد متأخراً.
وهذا في الواقع قياس فاسد، واستدلال باطل، فقولهم: إن الدين كالصناعة. قياس مع الفارق؛ لعدة أمور:
أولاً: أن الصناعات شيء مادي، والأديان شيء معنوي، فكيف يقاس شيء معنوي غير محسوس على شيء مادي محسوس، فهو كمن يقيس الهواء على الماء.
ثانيا: أن الصناعة تقوم على التجربة والملاحظة، وتظهر النتائج بعد استكمال مقوماتها، بخلاف الدين الذي لا يقوم على ذلك ........ ،
ثالثا: يلزم من هذا القياس أن يكون الإنسان في هذا الزمن صادق التدين خالص التوحيد؛ لأن الصناعة قد بلغت مبلغاً عاليا من التطور، والواقع خلاف ذلك فإن الإنسان أحط ما يكون من الناحية الدينية؛ إذ إن الإلحاد متفشٍّ في أكثر بقاع العالم، كما يلزم منه أن لا يوجد شرك في هذا الزمن، والواقع خلاف ذلك، حيث الشرك متفشٍّ في الشرق والغرب.
أما زعمهم الاستدلال على قولهم بالآثار ومخلفات الأمم السابقة، فيقال: إن هذه الآثار ناقصة، فلا دلالة فيها على ما ذكروا سوى التخمين ومحاولة الربط بين أمور متباعدة، وغاية ما تدل عليه الحفريات والآثار أن الأمم السابقة وقعت في الشرك، وهذا لا ننكره بل القرآن والسنة نصَّا على ذلك وبيناه، أما عبادة الإنسان الأول وعقيدته فلا يمكن معرفتها من خلال الآثار حتى يعثروا على الإنسان الأول ويجدوا آثاراً تدل على عقيدته وعبادته. ثم إن من المؤكد أن الأمم تتقلب في عباداتها، فتنتقل من التوحيد إلى الشرك، ومن الشرك إلى التوحيد، فمثلاً أهل مكة كانوا على التوحيد دين إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، ثم وقعوا في الشرك، ثم عادوا إلى التوحيد بدعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فمعرفة عبادة أمة من الأمم لا يعني أنها لم تعرف سوى تلك العبادة، بل ذلك يعني أنها كانت على تلك العبادة في تلك الفترة فقط. وبهذا يظهر جليا واضحاً فساد هذا القول، وأن ما استدلوا به ليس إلا تخرصات وتوهمات، لا تقوم في وجه الحق الواضح البين وهو: