لغة: القطع والفصل، يقال: قضى يقضى قضاء، فهو قاض إذا حكم وفصل، كما فى اللسان (1).
واصطلاحا: إلزام من له إلزام بحكم الشرع (2).
وقد ثبتت مشروعية القضاء بالكتاب والسنة والإجماع:
1 - قال تعالى: {ياداود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} ص:26.
2 - وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم متوليا بنفسه أمر، القضاء بالوحى الإلهى، لأنه المبلغ عن الله عز وجل، فكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس للقضاء يتمثل العدل فى أسمى وأجمل المظاهر، وكان القضاء منحصرا فيه دون غيره، ولكن عندما انتشر الإسلام كان مضطرا لتعيين القضاة، وقد ثبت أنه بعث سيدنا عليا وسيدنا معاذا إلى اليمن قاضيين (رواه أبوداود والترمذى) (3).
3 - ولما تولى سيدنا أبوبكر الخلافة تولى بنفسه السلطة الدينية والسياسية، وكان يرجع فى كل أموره إلى كتاب الله أوسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان يأخذ بالقياس، وإذا تعذر عليه الفصل فى المنازعة التى عرضت عليه، يجع إلى الشورى، وأخذ بها بعد عرض الأمر على أهل العقد والحل، كذلك كان يفعل عمر، مع تعيين القضاة فى سائر الأمصار الإسلامية لاتساعها، وكان يختار القضاة من حفظة القرآن الكريم ومن المعروفين بالورع والتقوى، ممن ضربوا أروع الأمثله فى العدل (4).
وقد شرع القضاء لأجل الفصل فى الخصومات، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل وإقامة العدل بين الناس، وهو ضرورة من الضروريات التى تحتاج الأمة إليها لعدم الاستغناء عنها، لأنه الوسيلة الوحيدة لرد النوائب، وقمع المظالم، ونصر المظلوم، وإنهاء الخصومات، ولذلك قال الفقهاء: يكره نحريما تقلد القضاء لمن يخاف الحيف فيه، بأن يظن أنه قد يجور فى الحكم، أو يرى فى نفسه العجز عن سماع دعاوى كل الخصوم، وهذا إذا لم يتعين عليه، فإن تعين عليه، أو من الخوف فلا يكره، وقالوا كذلك: يحرم على الشخص تولى القضاء إذا كان جاهلا ليس له أهلية القضاء أومن أهل العلم لكنه عاجز عن إقامة وظائفه، أو كان متلبسا بما يوجب فسقه، أو كان قصدء الانتقام من أعدائه، أو أخذ الرشوة أو نحو ذلك (5).
والقضاء فى الإسلام له أهميته ومكانته، لأنه يقوم على تحقيق العدل بين الناس ورفع الظلم عن المظلومين، وعدم المحاباة أو المجاملة، وكل هذا نراه فى كتاب سيدنا عمر إلى أبى موسى الأشعرى الذى جاء فيه "إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة آس بين الناس فى مجلسك ووجهك
وعدلك حتى لايطمع شريف فى حيفك ولايخاف ضعيف من جورك، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر ولا يمنعك قضاء قضيته
بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل، واجعل للمدعى حقا عائنا أوبينة فاضرب له أمدا ينتهى إليه، فإن أحضر بينته أخدت له بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء، فإن ذلك اتقى للشك، وأجلى للعمى ثم إياك والقلق والضجر والتأذى بالناس والتنكر بالخصوم فى مواطن الحق التى يوجب بها الأجر، فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تعالى -ولو على نفسه- يكفيه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله خلافه منه، هتك الله ستره، وأبدى فعله، والسلام" (6).
ولهذا رأينا الفقهاء يوجبون على القاضى:
1 - عدم الحكم لوالديه أو لأحد أولاده لأجل التهمة، ولكنه يجوز له أن يحكم على أحد أبويه، أو أحد أبنائه لانتفاء التهمة.
2 - عدم الحكم على عدوه، ويجوز له أن يحكم له.
3 - لا يجوز للقاضى أن يفاضل بين الخصوم فى المجلس، ولا أن يخلو بأحد الخصوم دون الآخر لما فى ترك العدل فى ذلك من كسر قلب الآخر ويؤدى إلى التهمة (7).
4 - وعلى القاضى أن ينظم وقته الذى يقضى فيه بين الناس، ليعطى لنفسه وقتا للراحة.
5 - يستحب له أن يتخذ كاتبا يكتب له، لأن النبى صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فقد اتخذ زيد بن ثابت ليكتب له، لأن القاضى فى الغالب يكون مشغولا بسماع دعوى الخصوم ومتابعة أقوالهم، ولهذا فإنه يكون محتاجا لكاتب يكتب له الوقائع حتى لا يقع القاضى فى خطأ بسببه النسيان.
6 - ينبغى للقاضى أن يتخذ أعوانا يعاونونه فى إحضار الخصوم وتنفيذ أحكامه بشرط أن يكون هؤلاء الأعوان من المعروفين بالتقوى والصلاح والأمانة والبعد عن الطمع (8).
7 - ليجوز للقاضى تأخير الحكم فى الخصومة إلا فى ثلاث: الريبة، ولرجاء صلح الأقارب، وإذا طلب أحد الخصوم مهلة لتقديم ما يؤكد قوله أمام القاضى (9).
8 - على القاضى ألا يميز بين مسلم أو غير مسلم فى مجلس القضاء لأن الإسلام هو دين العدالة، والتى كانت سببا فى انتشار الإسلام شرقا وغربا، فهذا هو القاضى شريح الذى كان يقضى بالعدل، ولا يفرق بين مسلم وغير مسلم، ولا بين حاكم أو محكوم حينما تخاصم إليه سيدنا على ويهودى فى
رمح، وادعى سيدنا على أن الرمح رمحه، وادعى اليهودى أن الرمح رمحه، عند ذلك
طلب القاضى من سيدنا على -وهو أمير المؤمنين- أن يحضر الشهود على أن الرمح رمحه، فأحضر ابنه الحسن، فلم يقبل القاضى شهادة الحسن لأبيه، وطلب من سيدنا على أن يحضر شاهدا آخر، ولم يجد شاهدا غيره، فحكم القاضى بأن الرمح لليهودى، فلما رأى اليهودى ذلك تعجبه مما رأى، وأعاد لسيدنا على رمحه، وأعلن إسلامه فى الحال، بسبب ما رآه من عدل القاضى، الذى لم يفرق بين مسلم وغير مسلم، ولو كانت الخصومة بين يهودى وبين أمير المؤمنين.
أ. د/صبرى عبدالرؤوف محمد