16 - الفطرة

اصطلاحاً: كلمة "الفطرة" تدل على معنيين رئيسيين هما: الجبلة التى ولد عليها الإنسان والصفة التى يتصف بها كل موجود فى أول زمان خلقته، والمعنى الثانى هو الدين (1).

والمعنى الأول يدور حول عدة معان تتعلق بالخلق والابتداء والاختراع للموجودات التى أحدثها الله تعالى وجبلها على طبيعة أو طبائع خاصة، فقد فطر الله الإنسان على السلامة خلقة وطبعا وبنية، ليس معها كفر ولا إيمان ولا إنكار ولا معرفة (2)، أى أنها خلقة قابلة للإنكار والمعرفة، والكفر والإيمان، ومتهيئة للسعادة والشقاوة وغير ذلك. فهى مجرد جبلة أو استعداد فطرى لقبول الدين (3).

ومن هنا كان لدى النفس الإنسانية استعداد لقبول الخير وقبول الشر، فليست النفس شريرة بطبيعتها، والذى يفلح هو الذى يتوجه بها إلى الخير، يقول سبحانه} ونفس وما سَوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها {(الشمس 7 - 10).

أما المعنى الثانى للفطرة فإنه يدور حول معانٍ عدة تتعلق بالدين والتدين؛ فالفطرة هنا يقصد بها الإيمان بالله عز وجل، والإقرار بمعرفته وربوبيته، والإيمان بدينه وإسلامه؛ فكل إنسان مولود على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، ولو ترك على هذه الطبيعة لاستمر عليها، ولزمها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد؛ وكل مولود يولد على معرفة الله تعالى والإقرار به، فلا نوجد أحدا فى هذه الدنيا إلا وهو يقرُّ بأن له صانعا، وإن سماه بغير اسمه، ولو عبد معه غيره (4). وفى هذا الصدد نجد القرآن الكريم يقول:} ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله {(الزمر38).

فإلانسان يقر ويعترف بأن الله تعالى هو رب كل شىء وخالقه، وهذا هو ما يُسمَّى بتوحيد الريوبية، وهو نوع من التوحيد لا نزاع فيه. كما أن الإنسان مفطور على التدين، فالدين فطرته التى قال الله عز وجل عنها:} فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون {(الروم 30)

وقد ذكر القرآن الكريم أن هناك عهدا وميثاقا أقر فيه الإنسان بمعرفة الله تعالى، وهو العهد الذى أخذه الله سبحانه على عباده وهم فى أصلاب آبائهم، حيث مسح ظهر آدم، فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعا ومدبرا حكيما؛ يقول تعالى:} وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا {(الأعراف 172 - 173).

وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء) (رواه مسلم) (5)

ويقول النبى - صلى الله عليه وسلم - راويا عن ربه: (إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما حللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا). (6)

وقد قيل: إن الفطرة هى دين الإسلام، وهو المعروف عند عامة السلف وقد أجمع أهل التأويل فى تأويل قول الله عز وجل} فطرت الله التى فطر الناس عليها {على أن فطرة الله دين الله الإسلام (7).

والمقصود به هنا دين التوحيد الذى نزل على كافة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- أو الاستعداد لقبول هذا الدين.

وهكذا يتبيَّن من دلالة الكتاب والسنه والآثار واتفاق السلف على أن الخلق مفطورون على دين الله الذى هو معرفته به ومحبته والخضوع له، وأن ذلك موجب فطرتهم ومقتضاها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضى حصول ضده، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرط بل على انتفاء المانع؛ فإذا لم يوجد فهو لوجود منافيه لا لعدم مقتضيه؛ ولهذا لم يذكر النبى - صلى الله عليه وسلم - لوجود الفطرة شرطا بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال: (فأبواه يهودانه وينصرانه ويُمَجسِّانه) فحصول هذا التهويد والتنصير موقوف على أسباب خارجة عن الفطرة، وحصول الحنيفية والإخلاص ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصله على غير الفطرة وإن توقف كماله وتفصيله على غيرها.

وتعد الفطرة من أهم الأدلة على وجود الله تعالى، فالكون بما فيه مفطور على الاعتراف بوجود الخالق إلا من غلبت عليه الشقاوة والغباوة، ووجود عبادات لبعض الموجودات التى خلقها الله سبحانه تؤكد على صحة القول بالفطرة الدينية.

أ. د/ محفوظ عزام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015