الزهد لغةً: ترك الشىء أو الميلِ إليه.
واصطلاحا: عند الصوفية هو بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل إن الزهد ترك راحة الدنيا طلبا لراحة الآخرة، وقيل أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك، ومنه جاء مصطلح الزاهد أى المعرض عن متاع الدنيا ولذاتها.
وهناك من فرق بين الصوفى والزاهد والعابد، فيذكر ابن سينا أن المُعْرِض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يسمى العابد، والمنصرف بفكره إلى الله مستديما لشروق نور الحق فى سره يخص باسم العارف.
والعارف عنده هو الصوفى. ومن هنا فقد فرق بين الزاهد والصوفى.
الزاهد من يزهد فى الدنيا، والصوفى يزهد فى كل ما يبعده عن الله، الزاهد يحرم نفسه من متاع الدنيا، والصوفى لا يحرم نفسه من متاع الدنيا إلا إذا حجبته عن الله، الزاهد غايته دخول الجنة، والصوفى غايته معرفة الله، الزاهد لابد أن يملك حتى يزهد فيه، والصوفى لا يشترط أن يملك شيئا حتى يزهد فيه، وعلى ذلك فإن الزهد بالمفهوم الصوفى أن تكون الدنيا فى يده لا فى قلبه. ومن ذلك نرى أن كل صوفى زاهد، وليس كل زاهد صوفيا.
والتصوف أعلى منزلة من الزهد، وقد ظهر الزهد عند المسلمين عندما اتسعت فتوحاتهم وكثرت غنائمهم، وأقبل كثيرون منهم على الدنيا وجنحوا إليها، وشجعهم على ذلك الثراء المفاجىء الذى أصابوه. وكان نتيجة ذلك أن قامت فى نفوس أتقيائهم ثورة داخلية، هى نزاع بين نفس لا تزال على إيمان قوى ودنيا مقبلة عليهم بشهواتها ومباهجها، وكان الطريق الوحيد للتخلص من هذا، هو الفرار من لذات الحياة، وكانت دعوة أبى ذر الغفارى صدى لهذه الثورة.
وكلمة الزهد لم ترد فى القرآن إلا مرة واحدة فى قوله تعالى: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين} (يوسف 20). إلا أن ثمة آيات كثيرة يفهم منها الحث على الزهد كقوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم} (الحديد 23).
وقد أفردت المؤلفات الأدبية فصولا فى شعر الزهد وأحوال الزهاد، وما قيل عنه من حكم ومواعظ وأمثال للتحبيب فيه، مثل كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ و"عيون الأخبار" لابن قتيبة، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه، وغيرها من المؤلفات.
ويرتبط الفقر بالزهد، فالزهد هو كمال الأبرار، وكراهة الدنيا والشغل عنها بالآخرة، فهو نقص فى الدنيا وغنى فى الآخرة، أما الراغب فيها فهو مشغول بالدنيا وبينه وبين الله حجاب لأنه يحجب نفسه بالدنيا ومشغول عن الله تعالى، والزهد مرتبط بالفقر حيث إن الزاهد محتاج إلى الله، وهو كالفقير فى شدة الاحتياج.
والوصول إلى الزهد لا يتأتى بيسر، بل لابد أن يمر الراغب فيه بمراحل، فصورته فى البداية ترك الشواغل وقطع العلاقات ورفع العوائق، وإسقاط الرغبة عن الشىء بالكلية، ودرجته فى المعاملات: الزهد فى الفضول والاختصار على الحقوق ليتفرغ الزاهد إلى عمارة وقته بالعبادة.
وأن تتصف أخلاق الزاهد بالتجرد عن الميل إلى كل ما هو فان، والتعود على ارتقاء الروح وتغذيتها، وفى الأصول تنحية ما دون الحق عن طريق القصد، ولزوم الفقر لغنى القلب بالحق.
ويشرح "المقدسى" تدرج مقام الزهد بأنه يبدأ بقصر الأمل، وهو المقام الأول للزهد، إذ هو بداية ورع دينى واستعداد للموقف فى قصر الأمل، ويستشهد بقول للإمام علىّ- كرم الله وجهه: إنما أخاف عليكم خصلتين: طول الآمال، واتباع الهوى فيضل عن الحق؛ الثانى الجهاد والعبادة وأن يخرجوا مما يحبون ويتصدقوا بالإنفاق، وإيثارهم الفقر على الغنى.
واختلف العلماء فى تفسير المزهود فيه من الدنيا، فقيل: الدينار والدرهم، وقيل: الطعام والشراب والملبس والمسكن، وقيل: الحياة، وقيل: إن الزهد قسمان زهد مقدور: وهو ترك طلب ما ليس عنده، وإزالة ما عنده من الأشياء، وترك الطلب فى الباطن، وزهد غير مقدور: وهو أن يبرد قلبه من الدنيا بالكلية، فلا يحبها أصلا، وإذا حصل للعبد القسم الأول يحصل الثانى أيضا بفضله تعالى وكرمه.
والزهد عند الصوفية ثلاثة أنواع: الأول: أن يكون تاركا للظاهر ميالا للباطن، ويسمى المتزهد، ومثل هذا الشخص ممقوت من البارى تعالى، والثانى: أن يكون تاركا للظاهر والباطن ولكن عنده شعور بالترك ويعلم أنه تارك، ويسمى ناقصا، والنوع الثالث: ألا يكون عنده قدر ولا قيمة حتى يعلم الشىء الذى تركه ويسمى الكامل فى ترك الدنيا، وهذه الأنواع الثلاثة تقع فى المرتبة الأولى للزهد.
أما المرتبة الثانية، فهى لمن يكون تاركا للدنيا والآخرة ولكنه ما زال لم يترك نفسه وهو يريد المولى نفسه، هذه مرتبة كاملة، والمرتبة الثالثة مرتبة تارك الدنيا والآخرة ونفسه وأن يكون غافلا عن نفسه وغير نفسه، ويهب نفسه كلية للمولى ولا يطلب نفسه إلا من أجل مولاه، وهذا الشخص فى الكمال الأكمل.
وهذه المراتب الثلاث تتمثل فى ترك:
1 - الحرام وهو خاص بالعوام من الناس.
2 - ترك فضول من الحلال وهو زهد الخواص.
3 - ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى وهو زهد العارفين.
أ. د/ منى أبو زيد