عندما توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب، وانتشر النفاق بالمدينة وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتف على طليحة الأسدى بنو أسد وطيئ، وبشر كثير أيضا، وادّعى النبوة أيضا كما ادعاها مسيلمة الكذاب وعَظُم الخطب واشتدت الحال، ونفذ أبو بكر الصديق جيش أسامة فقل الجند عند الصديق فطمعت كثير من الأعراب فى المدينة وراموا أن يهجموا عليها فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها ... وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة ويمتنعون عن آداء الزكاة، ومنهم من امتنع عن دفعها إلى الصديق وذكر أن منهم من احتج بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} (التوبة 103). قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وقد تكلم الصحابة مع الصديق فى أن يتركهم وما هم عليهم من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان فى قلوبهم ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق من ذلك وأباه (1).
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبى بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق (رواه الإمام مسلم) (2).
وبهذا يتضح لنا أن أهل الردة كانوا- كما يقول النووى نقلا عن الخطابى- صنفين: صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب. وهذه الفرقة طائفتان إحداهما أصحاب مسيلمة من بنى حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه فى النبوة وأصحاب الأسود العنسى ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - مدعية النبوة لغيره فقاتلهم أبو بكر حتى قتل مسيلمة باليمامة والعنسى بصنعاء، وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم، والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه فى الجاهلية .. والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام وهؤلاء على الحقيقة أهل بغى .. ثم قال: وقد كان فى ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأى وقبضوا على أيديهم فى ذلك كبنى يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبى بكر - رضي الله عنه - فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وفى أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر - رضي الله عنه - فراجع أبا بكر - رضي الله عنه - وناظره واحتج عليه بقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم نفسه وماله ". وكان هذا من عمر - رضي الله عنه - تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر فى أخره ويتأمل شرائعه .. فلما استقر عند عمر صحة رأى أبى بكر- رضى الله عنهما- وبان له صوابه تابعه على قتال القوم وهو معنى قوله: " فلما رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال عرفت أنه الحق " رواه مسلم (3).
هذا وقد سلك الصديق - رضي الله عنه - فى قتال المرتدين طريقين: الأول كان الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لعلهم يعودون إلى رشدهم ويتوبون إلى ربهم وهذا ما يمكن أن نسميه بالطريق السلمى ويتجلى ذلك فى الكتاب الذى أرسله أبو بكر - رضي الله عنه - إلى المرتدين وأعطى نسخة منه لكل قائد أرسله إلى هؤلاء القوم، وفى هذا الكتاب دعاهم الصديق - رضي الله عنه - إلى الخضوع للحق والعودة إلى الإسلام وإلى الطريق المستقيم وإلا كان كل أمير أرسله أبو بكر فى حل من قتل كل من أَبَى" (4).
أما الطريق الثانى: فكان الحرب حيث عقد الصديق - رضي الله عنه - أحد عشر لواء وجهها إلى المرتدين فى أنحاء الجزيرة العربية، وفيما يلى موجز لهذه الحروب:
عقد الصديق - رضي الله عنه - لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - لواء وأمره بطليحة بن خويلد، فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له. وقام خالد - رضي الله عنه - بالتوجه أولا إلى طليحة الأسدى والتقى مع طليحة بمكان يقال له: بزاخه (5).
ثم توجه خالد بعد ذلك إلى مالك بن نويرة التميمى بالبطاح، وكان مالك قد استجاب لسجاح بنت الحارث وهى من نصارى العرب، وقد ادّعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو أبى بكر الصديق - رضي الله عنه -، ثم سار خالد - رضي الله عنه - بمجموعة إلى اليمامة لقتال مسيلمة الكذاب والتقى الجمعان ودام الحصار أياما ثم قُتِلَ الكذاب لعنه الله قَتَلَهُ وحشى قاتل حمزة.
وكان الصديق - رضي الله عنه - قد بعث قبل خالد إلى مسيلمة عكرمة بن أبى جهل وشرحبيل بن حسنة.
ولما ارتد أهل البحرين بعث الصديق - رضي الله عنه - إليهم العلاء بن الحضرمى .. وكان العلاء من سادات الصحابة العلماء العُبَّاد مجابى الدعوة (6) فالتقوا بجواثى فنصر المسلمون (7).
أما أهل عمان فخرج فيهم رجل يقال له: فى الجاهلية الجُلَنْدى فادعى النبوة أيضا وتابعه الجهلة من أهل عمان فتغلب عليها وقهر جيفرا وعبادا وألجأهما إلى أطرافها من نواحى الجبال والبحر، فبعث جيفر إلى الصديق فأخبره الخبر واستجاشه فبعث إليه الصديق بأميرين وهما حذيفة بن محصن الحميرى، وعرفجة البارقى من الأزد، حذيفة إلى عمان وعرفجة إلى مهرة، وأمرهما أن يجتمعا ويتفقا ويبتدئا بعمان وحذيفة هو الأمير فإذا ساروا إلى بلاد مهره فعرفجة الأمير.
وأمر الصديق عكرمة بن أبى جهل أن يلحق بحذيفة وعرفجة إلى عمان وكل منكم أمير على جيشه وحذيفة مادمتم بعمان فهو أمير الناس فإذا فرغتم فاذهبوا إلى مهرة فإذا فرغتم منها فاذهب إلى اليمن وحضرموت فكن مع المهاجرين أبى أمية، ومن لقيته من المرتدة بين عمان إلى حضرموت واليمن فنكل به (8).
واستمرت جيوش الصديق - رضي الله عنه - وأمرائه الذين بعثهم لقتال أهل الردة جوَّالين فى البلاد يمينا وشمالا لتمهيد قواعد الإسلام وقتال الطغاة من الأنام حتى رد شارد الدين بعد ذهابه ورجع الحق إلى نصابه وتمهدت جزيرة العرب، وصار البعيد الأقصى كالقريب الأدنى.
وما تحقق هذا النصر للمسلمين على المرتدين إلا بسبب قوة إيمان الصديق - رضي الله عنه - ومن معه من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوة إيمان من أرسلهم لمحاربة هؤلاء المرتدين ومهارتهم الحربية والتخطيط المحكم الدقيق الذى نفذت به تلك الحروب، وبانتصار المسلمين فى تلك الحروب قوى سلطانهم وعز الإسلام ورفعت رايته خفاقة عالية، وكان ما فعله أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من محاربة المرتدين بعد نصحهم بالعودة إلى الإسلام من أسدِّ عمله وأفضل ما قدمه للإسلام (9)، فجزى الله الصديق - رضي الله عنه - خير الجزاء إزاء ما قدمه للإسلام والمسلمين، إنه نعم المولى ونعم النصير.
أ. د/ حسن عبد الرؤوف محمد