لغة: جلا الأمر جلاء وضح، جلا السيف والفضة والمرآة ونحوها كشف صدأها وصقلها، وأجلى عنه الهم: أزاله وكشفه. كما فى الوسيط (1).
واصطلاحا: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب كما يعرفه الغزالى (2)، وهذا التعريف لا يختلف- كثيرا- عن تعريفات قدماء الصوفية، كالسّرّاج الطوسى (ت 378 هـ/ 988 م)، والكلاّباذى (ت 380 هـ/ 0 99 م)، والقشيرى (376 - 465 هـ/ 986 - 1073 م)، والهجويرى (ت هـ 46 هـ/1073م) وغيرهم؛ وإن كنا نجد- عندهم- بعض استطرادات تتعلق بأحوال "التجلى" ومظاهره المختلفة لكنها لا تمس- فى جملتها- هذا المفهوم البسيط الذى لخصه الإمام الغزالى فى تعريفه السابق.
فالكلاّباذى- مثلا- يهتم ببيان أحوال ثلاثة للتجلى، هى: "تجلى الذات "، وتجلى الصفات "، و "تجلى حكم الذات "" ويعنى بالتجلى الأول: رؤية الله تعالى، وهى فى الدنيا: رؤية كشفية- لا عيانية-، ويدركها السالك بقلبه ووجدانه، وفى الآخرة: رؤية عيانية، أو: كشف عيانى. ويعنى بالتجلى الثانى: تجلى "الحق " بإحدى صفاته أو بصفاته كلها، كأن يتجلى على عبده بصفة القدرة، فلا يخاف غيره ولا يرجو سواه. أما التجلى الثالث فهو من تجليات الآخرة، ويتمثل فى انقسام الناس إلى فريقين: فريق فى الجنة وفريق فى السعير ..
ويفرق الهجويرى بين التجلى بمعنى "الكشف القلبى" فى الدنيا، والتجلى بمعنى "الكشف العيانى" فى الآخرة بأن التجلى فى الدنيا يحصل فى وقت ولا يحصل فى وقت آخر، والستر يعقب هذا التجلى، ويحجبه، بخلاف أهل العيان فى الجنة، فإنهم فى تجل دائم لا ينقطع، ولأن تجلى العيان "رؤية" حقيقية فإنه لا يجوز عليه الستر ولا الحجاب.
ويستروح الصوفية فى أحاديثهم عن تجلى الدنيا بإشارات ولطائف من قوله - صلى الله عليه وسلم - فى الحديث الشريف: " اعبد الله كأنك تراه " (3)، وقول عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما:- "كنا نتراءى الله فى ذلك المكان (الطواف) " (4).
غير أن هذا المفهوم البسيط للتجلى تعقَّد فى طور لاحق، وبخاصة فى مؤلفات الشيخ الأكبر: محيى الدين بن عربى (560 - 638 هـ/ 1097 - 1168م)، واكتسب أبعادا جديدة، لم تُعرف له من قبل: فتجلى الذات الذى لم يكن يعنى- عند الأوائل- أكثر من رؤية قلبية فى الدنيا وعيانية فى الآخرة أصبح يعنى تجلى الذات فى الذات، أى: تجلى الحق بذاته فى ذاته، بحيث يكون التجلى عين المتجلى، وهذا لا يكون إلا لله تعالى: أما تجلى الأسماء فإن التجلى- فيه مغاير للمتجلى، وهو ظهور وتجل من وجه، وحجاب وسترمن وجه آخر، لأنه، من وجه: أسماؤه- تعالى:. ومن وجه: حُجبه وأستاره النورانية، ويستأنس شَّراح ابن عربى من كلامهم هذا بالحديث الشريف: "دون الله تعالى ألف حجاب من نور وظلمة" (5). وللتجلى فى كلام المتأخرين مظاهر وأحوال ومراتب عدة، ولمراتبه أسماء واصطلاحات خاصة، لم تخطر للصوفية الأوائل على بال، مثل تعينات الذات، وتجليات الهوية، والتجلى السارى فى جميع الذرارى، والتجلى السارى فى حقائق الممكنات وغيرها.
أ. د/ أحمد الطيب
1 - المعجم الوسيط 1/ 137 مجمع اللغة العربية. دار المعارف- القاهرة.
2 - الإملاء عن إشكالات الإحياء، الغزالى بهامش: إحياء علوم الدين 1:72 ط- الحلبى 1957م.
3 - أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان من صحيحه.
4 - أخرجه أبو نعيم فى الحلية (1: 309) بلفظ "كنا فى الطواف فتخايل الله بين أعيننا".
5 - أخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير، وعزاه إليه العراقى فى تخريج أحاديث الإحياء107:1، ط. الحلبى، مصر 1952م.