ثم خلف من بعدهم خلف نجح فيهم تخطيط أعدائهم وتمت المؤامرات عليهم بدقة، وزاد الطين بلة حينما وطئت أقدام المستعمرين بلادهم حيث كانت الوطأة شديدة عليهم فقسموا بلاد المسلمين وجعلوهم دويلات يحكمونهم مباشرة أو بواسطة عملاء من أهل كل بلد هم أشد على قومهم من المستعمرين، وظل المسلمون قرونا وهم تحت جبروت وطغيان الإفرنج.
حتى إذا تنبهت الشعوب للغبن الواقع عليهم من استعمار أعدائهم لهم وتحكمهم في كل مواردهم وحربهم لدينهم وإقصاء الحكم بالشريعة الإسلامية وطمس اللغة العربية وإثارة الفتن والعداوة بين المسلمين على طريقة "فرق تسد".
حينما تنبهت الشعوب هبت لمحاربة المستعمرين وإخراجهم من أراضيهم بالقوة وسالت الدماء وانتهكت الأعراض وتم في ظاهر الأمر النصر لهم، فهل خرج المستعمرون فعلا من ديار المسلمين وانتهت آثارهم النجسة؟
الواقع أن المستعمرين كانوا في غاية الذكاء والترتيب والمكر:
قسموا البلاد تقسيما تعسفيا ظالما بحيث يبقى أهل البلاد في حزازات وشجار دائم على الحدود، وهو ما عانته الدول الإسلامية إلى اليوم إذ أصبحت كل دولة تطالب بجزء من أراضيها تحت الدولة الأخرى المجاورة، وكثيرا ما تقوم الحروب بينهم ليحتكموا في النهاية إلى ذلك العدو الذي سبب هذا الحال.
قبل أن يخرجوا رتبوا لهم عملاء هم أشد على أبناء جنسهم من أولئك المستعمرين، فضمنوا بقاءهم في صورة أخرى هي أشد من الأولى، ولا زالت مفاهيمهم ومناهجهم سارية على أغلب تلك الشعوب التي تدعي التحرر وتتشدق به في الوقت الذي كانوا فيه عالة على المستعمر في كل شؤون الحياة – حتى في التشريع والتعليم.
وما دام الحال هكذا فلابد أن تأتي النتيجة الحتمية التي أرادها المستعمرون أثناء حكمهم لدويلات المسلمين وهو وجود التفكك السياسي وما يتبعه من العداوة والصراعات المشتعلة، ونسوا أنه:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
وحال المسلمين اليوم من إحدى العجائب إذ يتمنون الوحدة الإسلامية والجرائد تكتب والإذاعات تصيح والزعماء يصرحون ويلمحون، ولكن هذا الوضع شيء والواقع شيء آخر، وكأنما طلب الوحدة واللهفة لتحقيقها معناه العكس تماما، وكأنها معلقة بالثريا.
يدخل الزعماء مؤتمراتهم وشعارهم قول الله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103] ثم يخرجون وهم على حبال شتى وأفكار متباعدة، لأن كل طائفة تعتقد أن هذا الحبل الذي ذكره الله تعالى المقصود به ما عليه تلك الطائفة لا غيرها من الحاضرين.
بل لم تتوحد كلمة المسلمين حتى في القضايا التي يسمونها مصيرية، ومن المعروف أن الذي يريد أن يحترمه الناس عليه أن يحترم نفسه أولا، فهناك قضايا كثيرة أمام مجلس الأمن وغيره لم يستطع أحد البت فيها ما دام أصحاب القضية لم يبتوا فيها بشيء خصوصا ما يتعلق بمواقف الدول الإسلامية من قضية فلسطين وقضية مواقفهم الاقتصادية مع الغرب، وغير ذلك.
كان للخلاف المذهبي دور ظاهر في تفكك المسلمين وتأجج الخلافات فيما بينهم بسبب ضيق أفق بعضهم من المتأخرين وجهلهم بأسباب قيام تلك المذاهب ولجمودهم على ما وجدوه مدونا عمن تعصبوا له من المتقدمين.
ويجب أن نعلم مسبقا أن الخلاف بين الناس أمر حتمي لا يمكن دفعه بحال بسبب اختلاف المفاهيم وقابلية المسائل الخلافية لذلك، ولا يجب أن نعتب على المخالف في تلك المسائل إلى حد التكفير أو النفور التام لأن كل الخلافات في غير الأمور المعلومة من الدين بالضرورة تحليلا أو تحريما لا غبار عليها ما لم تؤد إلى مخالفة الشرع أو إثارة الفتن.