(لما انتهت النوبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام من رب العالمين فهدم بعض قواعدهم المبتدعة في الدين، وبقي كثير لم يقدر على إزالته لكثرة المخالفين، حتى ظهرت الدولة الأموية، فأججوا نيران البدع الشنيعة، وأظهروا الباطل والأحوال الفظيعة، فزادوا على تلك القواعد وهلم جرا، فشادوا ما أسس أولئك، وزادوا في الطنبور نغمة أخرى فارتبك الأمر على الناس، ولا برحوا مشتملين على هذا اللباس، حتى انتهت الرياسة إلى أرجاس بني العباس، أهل القيان والمزامر والكاس. وأكثر الفقهاء من العامة في أيامهم، فرفعوا مكانهم، وأمروا الناس بالأخذ بفتياهم، كان أقرب الفقهاء إليهم أشدهم عداوة لآل الرسول، وأظهرهم لهم خلافاً في الفروع والأصول، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، ومن حذا حذوهم في تلك المذاهب السخيفة، وكان في زمانهم من الفقهاء من هو أعلم، ولكن اشتهر هؤلاء لأنهم لآل محمد أبغض وأظلم، ولما فيهم من التلبيس الذي حملهم عليه إبليس، أظهروا الزهد، والبعد عن الملوك، طلباً لدنيا لا تنال إلا بتركها ظاهراً، ومرآة لهم في السلوك، فمالت إليهم القلوب، ودانت لهم عقول من هم في الضلالة كالأنعام، روجت أسواقهم الكاسدة أقوام أي أقوام، فستروا ما أبدعوا في الدين بإصلاح مموه، وتأويل غير مبين) (?).ويقول شيخهم محمد التيجاني في كتابه (ثم اهتديت): (ربما أن المذاهب الأربعة فيها اختلاف كثير، فليست من عند الله ولا من عند رسوله) (?).ويقول في كتابه (الشيعة هم أهل السنة): (وبهذا نفهم كيف انتشرت المذاهب التي ابتدعتها السلطات وسمتها بمذاهب أهل السنة والجماعة ... ثم يقول: والذي يهمنا في هذا البحث أن نبين بالأدلة الواضحة بأن المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة هي مذاهب ابتدعتها السياسة) (?).
أما الجواب عن هذا الافتراء باختصار فهو أن نقول:
إن الأئمة الأربعة وغيرهم من علماء أهل السنة لم يكونوا قط آلة بأيدي الحكّام حتى يقال: إن فتاويهم تجري وفق أهوائهم، وسيرهم تزخر بمواقفهم النبيلة؛ سواء من الحكّام العدول أو غيرهم، كلٌّ بما يستحقه حسب ما دَلَّت عليه النصوص الشرعية. ولو كان الأمر كما يُوهمه الاثنا عشرية، فهل كان الإمام أبو حنيفة ليُضرب ويُحبس حتى الموت بسبب امتناعه عن تولّي القضاء (?)؟! أم كان الإمام مالك ليُضرب ويطاف به في أرجاء المدينة بسبب فتواه (?)؟! وهل كان الإمام أحمد بن حنبل ليُمتحن تلك المحنة العظيمة بسبب مذهبه الحق في القول بعدم خلق القرآن (?)؟! وليجب عن هذه التساؤلات العقلاء من القوم أنفسهم.
أما ما يرونه من مذهب هؤلاء الأئمة رحمهم الله من عدم التشهير بولاة الأمر، أو منازعتهم السلطة، أو تحريض الناس عليهم ونحو ذلك، حرصاً على جَمْعِ الكلمة، وعَدَمِ مفارقة الجماعة، فليس هذا بهوى منهم ولا لمصلحة شخصية لأحد منهم أو لمجموعتهم، وإنما ذلك هو مقتضى سنّة النبي صلى الله عليه وسلم التي أنتم يا معشر الشيعة الاثني عشرية من أجهل الناس بها، كما تقتضيه أصول مذهبكم!