يقول أبو حامد الغزالي: فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن الناس في هذا غلواً وإسرافاً، في أطراف فمن قائل إنه بدعة وحرام وأن العبد إن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل إنه فرض إما على الكفاية وإما على الأعيان وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله، وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف .. وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، لا ينحصر ما نقل عنهم من التشديد فيه قالوا ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم – إلا لما يتولد من الشر -.وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون)) (?).، أي المتعمقون في البحث والاستقصاء واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلم طريقه ويثني على أربابه ... فإن قلت فما المختار عندك؟ فأجاب: فيه منفعة وفيه مضرة فهو في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب كما يقتضيه الحال وهو باعتبار مضرته في وقت الاستقرار ومحله حرام، فأما مضرته فإثارة الشبهات وتحريف العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم وذلك مما يحصل بالابتداء ورجوعها بالدليل مشكوك فيه ويختلف فيه الأشخاص فهذا ضرورة في اعتقاد الحق وله ضرر في تأكيد اعتقاد البدعة وتثبيتها في صدروهم. بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه لكن هذا الضرر بواسطة التعب الذي يثور من الجدل، أما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيئتها فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام وتحقيق أن الطريق إلى المعرفة في هذا الوجه مسدود ولعمري لا ينفعك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور (?).أما كبير المتكلمين الذي يدور على مقالاته مذاهبهم أوحد زمانه في المعقول والمنقول أبو عبدالله الفخر الرازي، فقد أوصى عند موته كما في كتاب (عيون الأنباء) فقال: "وكنت أكتب في كل شيء شيئاً، لا أقف على كميه وكيفيه سواء كان حقاً أو باطلاً غثاً أو سميناً .. ولقد اختبرت الطريق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى ويمنع عن التعميق في إيراد المعارضات والمناقصات، وماذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشي، وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية .. وأقول ديني متابعة محمد سيد المرسلين وكتابي هو القرآن العظيم وتعويلي في طلب الدين عليهما" (?).وأما الإمام الجويني، فإنه ندم على ما كان منه من تضييع عمره في تحصيل علم الكلام ونهى أصحابه عن الخوض فيه فقال: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ إلى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحار الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني ها أنا أموت على عقيدة أمي – أو قال – على عقيدة عجائز نيسابور (?)، وقال: اشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف" (?).ولقد اقتصرنا في سرد أقوال بعض المتكلمين وتركنا آخرين لكفاية ما ذكرنا، فرجوع هؤلاء الأكابر وقضاؤهم على النظر المتعمق فيه بما سمعت، بعد أن أفنوا فيه أعمارهم من أوضح الحجج على من دونهم (?) وبطلان مأخذهم واشتغالهم بعلم الكلام واستدلالهم بموجبه. ومن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان فيتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار موسوساً تائهاً شاكاً لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً (?).

¤الفروق في العقيدة بين أهل السنة والأشاعرة لصادق عبده السفياني - ص 63

طور بواسطة نورين ميديا © 2015