ولعل السر يكمن في أن أغلب المترجمين كانوا غير المسلمين، مثل يحيى البطريق، وجورجس بن جبرائيل، وتيادورس، وعبدالمسيح بن ناعمة الحمصي، وقسطا ابن لوقا البعلبكي، وحنين بن إسحاق وغيرهم. قال الإمام السفاريني: "قال العلماء إن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى أظنه صاحب قبرص، طلب منه خزانة كتب اليونان، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلهم أشاروا بعدم تجهيزها إليه إلا مطران واحد فإنه قال جهزها إليهم فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها، وحدثني من أثق به أن شيخ الإسلام ابن تيمية – روح الله روحه – كان يقول: ما أظن أن الله يغفل عن المأمون ولابد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها" (?).وفي هذه الأثناء مد أهل البدعة رواق بدعتهم وتنفذوا على البلاد والعباد وصارت المنابر والحلق والقضاء حكراً عليهم وضيق على أهل السنة ونالهم العنت الشديد (?).

وهكذا ظل علم الكلام يترقى في مراحله المذكورة سابقاً حتى صارت مباحثه مختلطة بالمباحث الفلسفية البحتة وصار هو الطريق المعبر عن عقيدة المسلمين على ما فيه من أغماض وتعقيد وتكلف يصعب على العلماء أنفسهم فهم أغلب مباحثه ومصطلحاته، هذا عابه السلف وإن لهم منه موقف.

¤الفروق في العقيدة بين أهل السنة والأشاعرة لصادق عبده السفياني - ص 58

موقف السلف الصالح من علم الكلام:

لقد كان موقف السلف الصالح من علم الكلام موقفاً حازماً هو المنع من تعاطي هذا العلم والاشتغال به ومجالسة أصحابه أو حتى الرد عليهم وذلك أنهم نظروا إلى منهج الرسالة من الكتاب والسنة، فوجدوه قد انتهج منهجاً خاصاً في تقرير العقيدة الإسلامية، فاتجه إلى العقل الإنساني والفطرة البشرية يخاطب ما جبلت عليه من حقائق تجعل الإيمان بوجود الخالق وضرورة عبادته وحده أمراً بديهياً، لا حاجة فيه إلى الجدل والسفسطة، وأن الإسلام مبناه على الخضوع والاستسلام.

ثم نظروا إلى الأصول والمحاضن التي نشأ فيها علم الكلام، فوجدوا أن علم الكلام ترعرع في بيئة وثنية خالية من التوحيد، أساسه الفلسفة اليونانية، وبيئة المجتمع الإغريقي الإباحي المنحل، فأطلقوا صيحات الإنذار إشفاقاً على هذه الأمة من أن تأخذ مأخذ الأمم السابقة فكثرت أقوالهم في التحذير من علم الكلام، وهذه الورقات مع ما سبق طرحه من الأمر بلزوم السنة يعطنا صور واضحة متكاملة عن حرص السلف الصالح الكرام على هذه الأمة، وإليك نماذج من أقوالهم المحذرة من علم الكلام. يقول الإمام أحمد في رسالته للخليفة المتوكل في أمر القرآن: "ولست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتاب الله – عز وجل – أو في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أو عن التابعين فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود" (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015