بل إنهم قالوا في تكفير الناس لأقل سبب حتى حكموا على أنفسهم بالكفر حين قبلوا التحكيم أول الأمر، ففي أثناء محاورتهم مع علي أقروا على أنفسهم أنهم قد كفروا ثم تابوا، وأن هذا الحكم عام على الجميع حتى على نفسه، فإن عليه إذا أراد الإسلام أن يعلن كفره وتوبته، هكذا بلغ بهم العناد والجهل فقالوا له: "إنا حكمنا، فلما حكمنا أثمنا وكنا بذلك كافرين وقد تبنا، فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين"، فأجابهم علي رضي الله عنه بقوله: "أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر - أي أحد -! أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟! لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين" (?).
وهكذا يتبين لنا مما سبق ومن غيره مما لم نرد إطالة القول بذكره ثبوت تكفير المحكمة وتشريكهم لأهل القبلة، ومعاملتهم لهم على هذا الأساس، وقد تابعهم على ذلك الخوارج فيما بعد ولا سيما نافع بن الأزرق. ويذكر المبرد أن نافعا كان لا يرى أول الأمر أن مخالفيه مشركون، ولا يرى أيضا قتل الأطفال حتى جاء مولى لبني هاشم فقال له تلك المقالة، فانتهره بادي الأمر ولكنه ما زال به حتى أقنعه بذلك الرأي الخاطئ، ومن هنا أخذ في تطبيقه بكل قسوة وعنف، يقول المبرد: "ولم يزالوا على رأي واحد يتولون أهل النهر ومرداسا ومن خرج معه، حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع فقال له: إن أطفال المشركين في النار وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأدللت على نفسك، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني: وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26، 27]، فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم، فشهد نافع أنهم جميعا في النار ورأى قتلهم" (?).