فالأمر إذا عندهم راجع إلى المصلحة وما تقتضيه لا إلى أنه واجب وجوباً شرعياً يتحتم عليهم إنفاذه. أما المحكمة فيقول الشهرستاني عن رأيهم في الاستغناء عن نصب الإمام: " وجوزوا أنه، لا يكون في العالم إمام أصلاً" (?)، فهم كما يذكر رحمه الله كانوا أسبق إلى القول بالاستغناء عن الإمام من النجدات، ولكن لم يشتهر هذا القول على ألسنة العلماء كما اشتهر عن النجدات، اللهم إلا ما ذكره الشهرستاني عنهم. وربما كان ذلك منهم في أول أمرهم حيث نادوا: " لا حكم إلا لله " وفهم الإمام على أن من شعارهم هذا قولهم بعدم الحاجة إلى أمير، ولهذا رد عليهم قائلاً: " كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة، وأنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي؛ حتى يستريح بر ويستراح من فاجر" (?).ولكن المحكمة لم يبقوا على هذا فيما الرأي فيما بعد، بل كان أول ما عملوه بعد انفصالهم عن الإمام علي هو تولية عبد الله بن وهب الراسبي، ولهذا قال ابن أبي الحديد مجيباً عن قول الإمام علي في الخوارج: إنهم يقولون: لا إمرة: " قيل إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ويذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الإمام، ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي " (?).أما ما قيل عن الإباضية من أن رأيهم هو القول بالاستغناء عن نصب الإمام فقد ذهب إليه ج. ج. لوريمر وفي ذلك يقول: "ويختلف الإباضيون الأول عن كل من السنة والشيعة في رفضهم الرأي القائل بأن الإسلام في حاجة إلى رئيس ظاهر دائم". ويقول أيضاً: " وفي حين سمحوا بتعيين إمام أو زعيم روحي تعييناً قانونياً إذا ما اقتضت الظروف؛ أصروا بشكل خاص على أن يكون منتخباً في كل حالة، وإلا تكون الخلافة أو الإمامة وراثية " (?).
ولكن الإباضيين ينفون هذا القول عنهم ويعدونه من مزاعم خصومهم وأنها إشاعة من الإشاعات المغرضة، وأن " من يزعم أن الإباضية يجيزون أن تبقى الأمة المسلمة بدون دولة" مخطئ وجاهل بالمذهب الإباضي وقواعده. كما قال علي يحيى معمر. وينقل في هذا عن العلامة نور الدين السالمي في شرحه على مسند الربيع بن حبيب قوله: "والإمامة فرض بالكتاب والسنة والإجماع والاستدلال" (?).
ويقول السالمي في كتاب (غاية المراد):
إن الإمامة فرض حينما وجبت ... شروطها لا تكن عن رفضها غفلا
وباطل سيرة فيها الإمامة في اثنين ... لو بلغا في المجد ما كملا (?)
وبهذا يتبين موقف الإباضية من الإمامة، وينتهي القول إلى أنهم يوجبون نصب الإمام كغيرهم من الناس.
ولابد من وقفة أمام رأي النجدات في الاستغناء عن الإمام، فهي التي تزعمت هذا القول، وإن كنا سنرى فيما بعد أنها هي أيضاً لم تطبق هذا القول ولم تعمل بمقتضاه بالفعل، حيث بايعوا نجدة بن عامر بالإمامة.
إن ما ذهب إليه النجدات في هذا المقام يعتبر خروجاً على إجماع عامة الخوارج الذين يرون ضرورة نصب الإمام.
والواقع أنه لا يشك إنسان عاقل في أن بقاء الأمة من دون إمام يؤدي بالحياة إلى الفوضى والظلم وتشتيت الكلمة وإثارة الحروب المدمرة.
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا