فنقول: إن قول ثمامة باطل، وقد بينا بطلان الوجهين الأولين من قوله، وهما قوله: "إما كلها من الله ولم يستحقوا ثواباً ولا عقاباً، أو كلها من الخلق ... ".
بينا بطلان هذين الوجهين بقولنا أفعال العباد خلق لله وكسب للعباد. فالوجه المتعلق بالعباد والذي عليه الثواب والعقاب؛ غير الوجه المتعلق بالله، فمن الله خلقها، ويثابون ويعاقبون على كسبها. أما الوجه الثالث من قول ثمامة: وهو قوله: "أو تكون من الخلق ومن الله؛ فحينئذ يستحقون الثواب والعقاب جميعاً". هذا القول أيضاً باطل؛ إذ يستلزم الشركة بين الله وخلقه، ولا يلزمنا؛ بل إن قولكم هذا عائد عليكم لأنكم تقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم، وهي بعض الأعراض، وأن الله تعالى يفعل سائر الأعراض، فهذا عين الشرك تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وأما نحن فلا يلزمنا إيجاب الشركة لله تعالى فيما قلنا، لأن الاشتراك لا يجب بين المشتركين إلا باتفاقهما فيما اشتركا فيه. وبرهان ذلك: أن أموالنا ملك لنا وملك لله عز وجل بإجماع منا ومنكم، وليس ذلك بموجب أن نكون شركاءه فيها لاختلاف جهات الملك؛ لأن الله تعالى إنما هو المالك لها لأنها مخلوقة له تعالى ... وهي ملك لنا لأنها كسب لنا، وملزمون بأحكامها، ومثل ذلك أفعالنا، فهي مخلوقة لله وكسب لنا، فلسنا شركاء له .... (?).
وبهذا يظهر بطلان الوجه الثالث من قول ثمامة. والله أعلم.
الشبهة الثانية: قالت المعتزلة: وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا، فوجب أن تكون خلقاً لنا، وفعلاً لنا؛ قالوا: وبيان ذلك؛ أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام، وإذا أراد أن يقعد قعد، وإذا أراد أن يتحرك تحرك، وإذا أراد أن يسكن سكن، وغير ذلك. فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته، دل على أن أفعاله خلق له وفعل له (?).يقول القاضي عبدالجبار: " ... طريقة أخرى في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم المحدثون لها. وتحريرها: هو أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا، ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصرفنا، مع سلامة الأحوال؛ إما محققاً أو مقدراً، فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا؛ وإلا لما وجب ذلك فيها" (?).ويقول ابن منتويه – وهو يسوق الدلالة على أن الواحد منا فاعل على الحقيقة -: " ... إن العلم بوقوع تصرفنا بحسب دواعينا وقصودنا وغير ذلك من أحوالنا حاصل على وجه لا يمكن دفعه عن النفس، ومعلوم استمرار ذلك ... فكل ما نقض هذه الجملة يجب بطلانه ... " (?).
مناقشة هذه الشبهة:
إن هذه الشبهة باطلة، وبيان ذلك من وجوه، منها: أولاً: قولكم "إن أفعال العباد تحصل بحسب قصودهم .. " غير صحيح على إطلاقه، فإنا نرى من يريد شيئاً ويقصده، ولا يحصل له ما يريده وما يقصده، فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة، فيضعف ويمرض؛ وربما ابتاع سلعة ليربح فيخسر، وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه إلى غير ذلك، فبطل ما ذكرتموه، وصح أن فعله خلق لغيره يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة والخلق من الخالق (?).