أنه لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية يمتاز بها وهو مشترك بين الموجودات بأسرها ضرورة، وما ذكرتم مما به الافتراق كالإنسانية والفرسية وغيرهما، وألزمتم الاشتراك فيها على مذهبنا فخصوصيات الأشياء التي يمتاز بها بعضها عن بعض هيئات وخصوصيات للهويات المتمايزة بذواتها، وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها ولا بما يستلزم هذا الاشتراك استلزاما مكشوفا لا سترة به فما ذكره الشيخ من أن وجود كل شيء عين حقيقته لم يرد به أن مفهوم كون الشيء ذا هوية هو بعينه مفهوم ذلك الشيء حتى يلزم من الاشتراك في الأول الاشتراك في الثاني بل أراد أن الوجود ومعروضه ليس لهما هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد بالجسم وقد عرفت أن هذا هو الحق الصريح، فالاتحاد الذي ادعاه الشيخ إنما هو اعتبار ما صدقا عليه، وذلك لا ينافي اشتراك مفهوم الموجود فلا منافاة بين كون الوجود عين الماهية بالمعنى الذي صورناه، وبين اشتراكه بين الخصوصيات المتمايزة بذواتها، والأكثرون توهموا أن ما نقل عنه من أن الوجود عين الماهية ينافي دعوى اشتراكه بين الموجودات إذ يلزم منهما معا كون الأشياء كلها متماثلة متفقة الحقيقة وهو باطل فلذلك قال: واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام وهذا غاية ما يمكن فيه من التقدير والتحرير لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا وعليك بإعادة التفكير وإمعان التدبر والثبات عند البوارق، وعدم الركون إلى أول عارض.
الاعتراض السابع:
لا نسلم أن علة صحة الرؤية ثابتة فيه لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا.
والجواب: هو بيان أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها وأن متعلقها هو الوجود مطلقا، أعني كون الشيء ذا هوية (ما) لا خصوصيات الهويات والوجودات كما في الشبح المرئي من بعيد بلا إدراك لخصوصيته وإذا كان متعلقها مطلق الهوية المشتركة لم يتصور هناك اشتراط بشرط معين ولا تقييد بارتفاع مانع (?).
هذا غاية القول في تحرير هذا الدليل العقلي على رؤية الله تبارك وتعالى والاعتراضات الواردة عليه والإجابة عنها، وأود بعد هذا العرض للدليل، أن أورد كلام الخصوم عليه ثم أبين عدم اقتناع المستدلين به أنفسهم، وعدم اطمئنانهم الاطمئنان الكامل، وبيان أنه مسلك لا يقوى.
فقد قال القاضي عبد الجبار بعد ذكر الصفة التي يكون المرئي عليها حتى يصح أن يرى: (وقد ذهب بعض من لا علم له بهذا الشأن من المتأخرين إلى أن كل موجود يصح أن نراه، وأن صحة الرؤية موقوفة على وجود المرئي فقط. وزعم أن سائر ما لا نراه من الموجودات الآن إنما لا نراه لأن الله تعالى لم يخلق في عيننا رؤيته أو خلق في عيننا آفة مانعة من رؤيته ولو تغير حالها لصح أن نرى جميعه وهو موصوف بالقدرة على أن يرينا جميعه. وزعم أن المرئي لو رؤي لمعنى فيه لاستحال رؤية الأعراض، ولو رؤي لنفسه لوجب أن تتجانس الأشياء بوقوع الرؤية عليها، ولوجب أن تقضي على الجنس الواحد أنه لا يصح أن يرى سواه، فثبت أنه إنما يرى لوجوده، ولأنه نفس وعين فتجب صحة الرؤية في كل موجود. ومما يصح التعلق به في نصرة قوله: إن الجوهر واللون يستحيل أن نراهما إذا عدما، ويصح أن نراهما عند الوجود وإن كانا في حال عدمهما على ما يختصان به لنفسهما فثبت أن الذي صحح رؤيتهما هو الوجود دون ما هما عليه في النفس فيجب صحة رؤية كل موجود (?).