وتعرض بعض العلماء لبيان المقدمة الثانية – أن كل موجود يصح أن يرى – فقالوا: إنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء والحركة والسكون والاجتماع والافتراق وهذا ظاهر، ونرى الجوهر لأنا نرى الطول والعرض في الجسم ولهذا نميز الطويل من العريض والطويل من الأطول فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض، وهذه الصحة لها علة لتحققها عند الوجود، وانتفائها عند العدم، فإن الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرئية بالضرورة والاتفاق، ولولا تحقق أمر مصحح حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك أي اختصاص الصحة بحال الوجود ترجيحا بلا مرجح. وهذه العلة المصححة للرؤية لا بد من أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض، وإلا لزم تعليل الأمر الواحد وهو صحة كون الشيء مرئيا بعلل مختلفة وهو غير جائز، ثم نقول هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما، فإن الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامة يتوهم كونها مصححة سوى هذين، والحدوث لا يصلح أن يكون علة للصحة فهو عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق، والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلة لأن التأثير صفة إثبات فلا يتصف به العدم، ولا ما هو مركب منه، فإذا سقط عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود فهو العلة المشتركة، فعلة صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية وهو المطلوب (?). ويلتزم أبو الحسن الأشعري كل لازم لهذا الدليل من جواز صحة رؤية كل موجود كالأصوات، والروائح، والملموسات، والطعوم، ويقول لا يلزم من جواز صحة الرؤية لشيء تحقق الرؤية له، وعدم رؤيتنا لهذا اللازم ليس لامتناعه بل لعدم جريان العادة من الله تعالى بخلق رؤيته فينا، ولا يمتنع أن يخلق رؤيتها فينا كما خلق رؤية غيرها، وقد نشأ هذا من أنه جعل الرؤية علما مخصوصا فكما يتعلق العلم بالموجودات كذلك الرؤية إلا أن العلم المطلق أعم (?).
وبعد أن ذكر صاحب المواقف هذا الدليل العقلي، كما تقدم أورد عليه بعض الاعتراضات ثم أجاب عنها فقال:
الاعتراض الأول:
لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر بل المرئي هو الأعراض فقط. وقولك إنا نرى الطول والعرض وهما جوهران.
قلنا: الحكم برؤيتهما صحيح ولكن المرجع بهما إلى المقدار فإنه عرض قائم بالجسم، ووجود المقدار الذي هو عرض مبني على نفي الجزء وتركب الجسم من الهيولي والصورة وهذا غير مسلم، بل نقول ببطلانه، ولإبطال وجود المقدار العرضي: أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء إلى الأرض فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة جدا وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض فعلم أنه لا حاجة في الطول إلى شيء سوى الأجزاء فالمرئي هو تلك الأجزاء لا عرض قائم بها، أيضا فالامتداد الحاصل فيما بين الأجزاء شرط لقيام العرض الواحد الذي هو المقدار بها، وإلا لقام المقدار بها أي بتلك الأجزاء وإن كانت متناثرة متفاصلة وهو ضروري البطلان، وإذا كان الامتداد شرطا لقيام المقدار العرضي بالأجزاء فلا يكون الامتداد عرضا قائما بها، وإلا لزم اشتراط الشيء بنفسه، فمرجع الطول إلى الأجزاء المتألفة في سمت مخصوص فرؤيته رؤية تلك الأجزاء المتحيزة وهو المطلوب.
الاعتراض الثاني:
لا نسلم احتياج صحة الرؤية إلى علة لأنها الإمكان والإمكان عدمي والعدمي لا حاجة به إلى علة.