وللرد على هذه المزاعم المعروفة الهدف؛ وهو الربط بين معتزلة الابتداع المتأخرين، واعتزال الصحابة للفتنة، وأحداثها، فهذا الربط باطل، ولا صحة له؛ فإن الصحابة المعتزلين لأحداث الفتنة لم يؤثر عنهم أي خوض في مسائل عقدية مشابهة للتي ابتدعها المتأخرون، بل كان اعتزالهم لحقن دماء الأمة فقط، ولم يتعد ذلك إلى أي مقولة فكرية، أو عقدية، تشق صف الأمة، وتخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم إن المعتزلة المتأخرين، لا يعتبرون معتزلة الحرب سلفاً لهم، بل الذي حملهم هذا هم مؤرخو الشيعة، والمستشرقون، ومن تابعهم، بل الثابت أن موقف واصل، وعمرو بن عبيد، من أحداث الفتنة ليس موقفاً وسطاً؛ كما فعل الصحابة المعتزلون، ولكنه موقف يطعن في المقتتلين؛ حيث قال واصل: "إن فرقة من الفريقين فسقة بأعيانهم، وإنه لا يعرف الفسقة منهما، وأجازوا أن يكون الفسقة في الفريقين علياًّ، وأتباعه؛ كالحسن، والحسين، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وأبي أيوب الأنصاري، وسائر من كان مع علي يوم الجمل، وأجاز كون الفسقة من الفريقين عائشة، وطلحة، والزبير، وسائر أصحاب الجمل، ثم قال في تحقيق شكه: لو شهد علي وطلحة، أو علي والزبير، أو رجل من أصحاب علي، ورجل من أصحاب الجمل، عندي على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما؛ لعلمي بأن أحدهما فاسق، لا بعينه" (?).وزاد عمرو بن عبيد على قرينة واصل؛ فقال بفسق كلتا الفرقتين المتقاتلتين يوم الجمل؛ وذلك أن واصلاً إنما رد شهادة رجلين من أصحاب الجمل، والآخر من أصحاب علي رضي الله عنه، وقبل شهادة رجلين كلاهما من أحد الفريقين، وزعم عمرو بأن شهادتهما مردودة، وإن كان من فريق واحد؛ لأنه قال بفسق الفريقين جميعاً" (?).
فأين هو الاعتزال الذي قال به الشيعة، والمستشرقون؟ وهل الذي يقول مثل هذا في الصحابة يكون الصحابة المعتزلون للفتنة سلفاً له، وهم الذين كان عندهم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخوضوا في الفتنة؟ لكن واصلاً، وعمراً، انطلقت ألسنتهم العليلة بتفسيق جمهور الصحابة، الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه.
أما ما قاله الملطي "ت (377هـ) " عن حدوث هذا الاسم بعد بيعة الحسن لمعاوية، فهذا الرأي يكاد قد ينفرد به وحده، ولم يقل به غيره، ولو صح، لاشتهر هذا الاسم اشتهاراً واسعاً، ثم إن الحقائق تنقضه؛ فإن الناس بعد بيعة الحسن لمعاوية – رضي الله عنهما –، قد دخل أغلبهم في بيعة معاوية، وسمي ذلك العام عام الجماعة، فقد بايعه كبار الصحابة، وأعيان الأمصار في كل أرض الخلافة، إلا بقايا من الشيعة السبئية، والخوارج الذين اختاروا سراديب الظلام، وعلى فرض صحة ما قاله الملطي، فإن اعتزال هؤلاء للعلم، والعبادة، وليس لتأسيس نحلة ضالة تخالف منهاج السلف في الكتاب، والسنة. وقد حاول الشيعة المعتزلة من الزيدية الذين خلطوا بين الاعتزال، والتشيع، نفي ما قاله واصل وعمرو في الصحابة، بلا دليل يصح؛ حيث يقول نشوان الحميري: ""ومن الناس" من يقول سموا معتزلة لاعتزالهم علي بن أبي طالب – عليه السلام – في حروبه، وليس كذلك؛ لأن جمهور المعتزلة، وأكثرهم، إلا القليل الشاذ منهم، يقولون: إن عليا كان على الصواب، وإن من حاربه فهو ضال" (?).