وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: 102]، أفيقول مسلم: إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس، ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته؛ لكونهم لم يشركوا؟، وإن أهل الفواحش، وشرب الخمر، وظالم الناس اتقوا الله حق تقاته؟ "، ثم قال:"ومن أواخر ما نزل من القرآن - وقيل: إنها آخر آية نزلت (?) - قوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]، فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك، وإن فعل كل ما حرم الله عليه، وترك كل ما أمر الله به؟ ".ثم ختم شيخ الإسلام جوابه بقوله: "وبالجملة، فكون المتقين هم الأبرار، الفاعلون للفرائض، المجتنبون للمحارم، هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف، القرآن والأحاديث تقتضي ذلك" (?).
وقال أيضا: "قوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، أي ممن اتقاه في ذلك العمل، ليس المراد به الخلو من الذنوب، ولا مجرد الخلو من الشرك، بل من اتقاه من عمل قبله منه وإن كانت له ذنوب أخرى؛ بدليل قوله: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114]، فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها.
وقد ثبت بالكتاب والسنة المتواترة: الموازنة بين الحسنات والسيئات، فلو كانت الكبيرة تحبط بالحسنات لم تبق حسنة توزن معها. وقد ثبت في الصحيحين: أن بغيا سقت كلباش، فغر الله لها بسقيه" (?).
خامسا: ظن المرجئة أن العمل لا يحبط إلا بالكفر فقط. فيقال: إن الإيمان كله لا يزيله إلا الكفر المحض، الذي لا يبقى مع صاحبه شيء من الإيمان، وهذا هو الذي يحبط الأعمال، وأما ما دون ذلك، فقد يحبط بعض العمل، كما في قوله تعالى: لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [البقرة: 264]، فإن ذلك يبطل تلك الصدقة، لا يبطل سائر أعماله (?).
سادسا: استدلالهم بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر: 32 - 33] على أن الثلاثة يدخلون الجنة. يجاب عنه بأن هذا "لا يمنع أن يكون الظالم لنفسه قد عذب قبل هذا، ثم يدخلها" (?).
سابعاً: استدلال بعض المرجئة بقوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14 - 16] على أن النار لا يدخلها إلا كافر.
أجيبوا عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن هذه نار مخصوصة بالكفار الأشقياء، ولغيرهم منازل أخرى.
والثاني: أن الموحدين لا يصلونها صلي خلود. وهذا أقرب، وتحقيقه أن الصلي هنا هو الصلي المطلق، وهو المكث فيها، والخلود على وجه يصل إليهم العذاب دائما، فأما من دخل النار وخروج، فإنه نوع من الصلي، ليس هو الصلي المطلق، بحيث تحبط به من جميع جوانبه، فإنه قد ثبت أن الموحدين لا تأكل النار منهم مواضع السجود، والله أعلم (?).ومن خلال المباحث السابقة في مرتكب الكبيرة يتبين أن فرق المرجئة الذين درست أقوالهم في مرتكب الكبيرة، وهم رؤوس فرق الإرجاء، ليس لهم مخالفة في مرتكب الكبيرة إلا في اسمه، حيث يجعلونه مؤمنا كامل الإيمان، وإلا فهم يقولون بأن الفاسق مستحق للذم والعقاب، ومعرض للوعيد، وأن من أهل القبلة من يدخل النار (?).
¤آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 517