قالوا: ولو مات على هذه التوبة لم يقطع له بالجنة، وهم لا يستثنون في الأحوال، بل يجزمون بأن المؤمن مؤن تام الإيمان، ولكن عندهم الإيمان عند الله هو ما يوافى به، فمن قطعوا له بأنه مات مؤمنا لا ذنب له قطعوا له بالجنة، فلهذا لا يقطعون بقبول التوبة؛ لئلا يلزمهم أن يقطعوا بالجنة. وأما أئمة السلف فإنما لم يقطعوا بالجنة؛ لأنهم لا يقطعون بأنه فعل المأمور وترك المحظور، ولا أنه أتى بالتوبة النصوح، وإلا فهم يقطعون بأن من تاب توبة نصوحاً قبل الله توبته" (?).
سادسا: أنه ترتب على مأخذهم أيضا أن غلا بعض أتباعهم حتى طردوا الاستثناء في كل شيء، وأنكروا القطع في أي شيء.
قال شيخ الإسلام: "ومأخذ هذا القول طرده طائفة ممن كانوا في الأصل يستثنون في الإيمان أتباعا للسلف، وكانوا قد أخذوا الاستثناء عن السلف".
ثم قال: "ثم صار كثير من هؤلاء بآخرة يستثنون في كل شيء، فيقول: هذا ثوبي إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله. فإذا قيل لأحدهم: هذا لا شك فيه؟، قال: نعم لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره، فيريدون بقولهم: إن شاء الله: جواز تغييره في المستقبل، وإن كان في الحال لا شك فيه، كأن الحقيقة عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل" (?).
وقال: "وهذه الطائفة المتأخرة تنكر أن يقال: "قطعا" في شيء من الأشياء، مع غلوهم في الاستثناء، حتى صار هذا اللفظ منكرا عندهم، وإن قطعوا بالمعنى، فيجزمون بأن محمد رسول الله، وأن الله ربهم، ولا يقولون: قطعا"، ثم قال:"والمقصود هنا أن الاستثناء في الإيمان لما علل مثل تلك العلة طرد أقوام تلك العلة في الأشياء التي لا يجوز الاستثناء فيها بإجماع المسلمين" (?).
وفي حكم هؤلاء يقول شيخ الإسلام: "وإذا قال القائل: هذا حجر، ولا أقطع بأن هذا حجر، فهذا مخطئ، لكن إن كان مراده أني إذا قطعت بأنه حجر، فقد جعلت الله عاجزا عن تغييره.
فإنه يقال له: بل هو الآن حجر قطعا، والله قادر على تغييره.
وإن كان مراده بقوله: إن شاء الله: أن الله قدرا على تغييره، فهذا المعنى صحيح. وإن كان شاكا في كونه حجرا، فهذا متجاهل، يعزر على ذلك" (?).
ويقول: "أجمع المسلمون على شهادة أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله، وأن ذلك حق يجزم به المؤمنون، ويقطعون به، ولا يرتابون.
وكل ما علمه المسلم وجزم به، فهو يقطع به، وإن كان الله قادرا على تغييره، فالمسلم يقطع بما يراه ويسمعه، ويقطع بأن الله قادر على ما يشاء. وإذا قال المسلم: أنا أقطع بذلك، فليس مراده أن الله لا يقدر على تغييره، بل من قال إن الله لا يقدر على مثل إماتة الخلق، وإحيائهم من قبورهم، وعلى تسيير الجبال، وتبديل الأرض غير الأرض، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" (?).
سابعا: أنهم بقولهم هذا كشفوا عن تناقضهم في باب الإيمان.
إذ تراهم لما تكلموا عن مسألة مسمى الإيمان وأن العمل ليس منه عرفوا الإيمان بأنه التصديق؛ محتجين باللغة، تأييدا لمذهبهم.
ولما تكلموا عن الاستثناء، وأنه يجب الإتيان به في الإيمان، جعلوا الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، ولم يلتفتوا إلى اللغة. فهنا تناقضوا، إذ جعلا في مسألة الاستثناء: مسمى الإيمان ما ادعوا أنه مسماه في الشرع، وعدلوا عن اللغة، فهلا فعلوا هذا في الأعمال (?)؟
¤آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 475