ويمكن الإشارة هنا إلى تفريق شيخ الإسلام بين مصطلحين مشهورين هما مصطلح (النحلة) و (الملة)، فالنحلة لغة: انتحال شيء ونسبته لشخص معين، يقال: انتحل فلان شعر أو قول فلان إذا ادعى أنه قائل، واصطلاحاً تعني انتحال الشيء واعتقاده والدعوة إليه، وغالباً ما يكون في الاعتقاد (?)، وكذلك استعمال ابن تيمية لمصطلح (الملة) والتي تعني الشريعة أو الدين، قال ابن منظور: هي معظم الدين، وجملة ما يجيء به الرسل (?) , وهذا التفريق هو المشهور عند العلماء، وقد استعمل شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المصطلح للدلالة على تعبير الفرقة، كما هو متبع عند علماء الملل والنحل. ويقرر شيخ الإسلام أخيراً الفرقة الناجية بنظره فيقول: إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعا لها تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها، الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه (?).
نطاق الفرقة: من المسائل المهمة التي نالت اهتمام العلماء تحديد الإطار العلمي للفرقة، دون النظر إلى التفرعات الحاصلة في الفروع، لأن مفهوم الفرقة قد يتشعب عند بعض العلماء بحيث لا يمكن أن يعمم بأي حال من الأحوال، وينبه شيخ الإسلام إلى ذلك بقوله: الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم مجتمعين (?)، وهذا التمييز قد نبه إليه قبل قليل عند تناوله لحديث الافتراق، كما أنه نبه على ضرورة عدم تعميم الأحكام فيما يخص مقالات هذه الفرق وشبهاتها، فقال: ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة (?)، وهذا التقرير حسن منه رحمه الله تعالى، إذ أن هذه الفرق تتفاوت في مقالاتها واعتقاداتها، فلا يمكن إصدار حكم يشملها كلها، ومع ذلك فالأصل الذي ينبغي أن يبنى عليه – في تحديد هذه الفرق - هو اتباع الكتاب والسنة. وعند تعيينه للفرق الإسلامية فإن شيخ الإسلام يتبع منهج السلف في ذلك ولا يحيد عنه، فيقول: وأما تعيين الفرق الهالكة، فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين، قالا: أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد (?)، وهذا التقسيم للفرق هو المشهور بين العلماء، إذ يقسمون الفرق إلى أربعة أصناف، أو خمسة على اختلاف فيما بينهم في عد الجهمية من الفرق الإسلامية. ومن خلال تناول شيخ الإسلام ابن تيمية للعدد المحدد في الفرق نراه يعتمد حديث الافتراق في تقسيم أصول الفرق المتقدمة، فيقسمها بالتساوي وفق الأصول المذكورة: وجعلوا أصول البدع خمسة، فعلى قول هؤلاء يكون كل طائفة من المبتدعة الخمسة اثنا عشر فرقة، وعلى قول الأولين يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمانية عشر فرقة (?)، ولكننا بواقع الحال لا يمكن أن نسلم بهذه القاعدة، إذ أن هذه الفرق تتفاوت في التقسيم، فأكثر فرق تقيسماً هم الشيعة وأقلهم هم المرجئة والجهمية، على تفصيل مذكور في كتب الملل والنحل، ولكن يمكن القول أن هذا هو التقسيم يأخذ هذه الفرق بإطارها العام.
¤تحديد الفرقة الناجية لمجيد الخليفة ص16