ومع إيماننا بأن الأولى هو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لا حرج في عرض مواقفهم على النصوص الشرعية التي أمر الله تعالى بالرد إليها في كل نزاع، لا سيما وهي- ولله الحمد- تدل على صحة ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيهم، وخاصة أهل الحديث، كأحمد وسفيان، بخلاف ما ذهب إليه أهل الرأي وكثير من الفقهاء المتأخرين، مع ما في هذا من مصالح، كأخذ العبرة، ونفي التهمة تفصيلاً بعد نفيها إجمالاً فنقول: إن النووي رحمه الله شافعي المذهب، وكثير من متأخري الشافعية يرون تصويب علي رضي الله عنه وتخطئة من حاربه أو توقف عن الحرب معه، ولكن النووي رجل محدث، وقد ر أي من صحة أحاديث النهي عن القتال في الفتنة وكثرتها ما لم يستطيع معه الجزم بتخطئة من قعد عن نصرة عليّ - أعني الممسكين عن الخوض في الفتنة- فأراد التوفيق والتأويل، فاعتذر عن هؤلاء بأنهم لم يتبين لهم الصواب مع علي أم مقاتليه؟ ووضع في اعتباره أن القول بترك قتال المسلمين مطلقاً يؤدي إلى جرأة المفسدين وتطاول المجرمين- وهي العلة التي يذكرها الفقهاء المتأخرون كثيراً (?) - فجعل الإمساك عن ذلك مخصوصاً بهذه الحالة وحدها. واعتذر عن العمل بالأحاديث بقوله: "تتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما" (?).
وهذا الذي ذهب إليه هو وغيره من الفقهاء يتبين صوابه أو خطؤه باستعراض مواقف الممسكين عن الفتنة واحداً واحداً:1 - فهذا أسامة بن يزيد- على عظيم صلته بعلي رضي الله عنهما- يقول عنه مولاه حرملة: "أرسلني أسامة إلى علي، وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك (?).؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره" (?).
فأسامة يفرق بين العلاقة الحميمة وبين أمر لم يجد له في الشرع مخرجاً، ولو رآه جائزاً لما تردد عنه. وينقل الحافظ عن ابن بطال: أن أصل موقف أسامة هذا هو ما نذره على نفسه يوم أن قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله- أنه لا يقاتل مسلماً أبداً (?).
2 - وهذا أبو موسى الأشعري، وصاحبه أبو مسعود الأنصاري، يعيبان على عمار مشاركته في القتال- وقد كان مع علي- قال شقيق بن سلمة: "كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه غيرك، وما رأينا منك شيئاً منذ صحبت النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر. قال عمار: يا أبا مسعود ما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر" (?).قال الحافظ: " كان أبو مسعود على رأي موسى في الكف عن القتال؛ تمسكاً بالأحاديث الواردة في هذا الأمر" (?)، فليس هناك اشتباه، بل القضية من الوضوح بحيث يعيبان عماراً!!
3 - وأما عبد الله بن عمر، فيتخذ هذا موقفاً مطرداً، فهو لم يشترك في أي قتال بين المسلمين قط، لا زمن علي ولا فيما بعد، لأنه يراه كله قتال فتنة.
روى البخاري: "أن رجلاً جاءه، فقال: يا أبا عبدالرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟