المبحث الخامس: براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء

إن البحث في نشأة الفكر الإرجائي يستلزم منا بالضرورة أن ندحض بالحجج الصريحة ما ذهب إليه بعض الناس، من القول بأن أصل المرجئة هو تلك الطائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم تخض فيما خاض فيه غيرها من الفتن، وفضلت الاعتزال والإمساك عن الدخول في تلك المأساة الكبرى.

وهذا الزعم تبناه قديماً بعض رؤوس الضلالة من المتكلمين وأعداء الصحابة, كالرافضة والخوارج، ولكنه ظل قولاً مهلهلاً مندثرا، حتى بعثه المستشرقون وأتباعهم من المستغربين، فدرج على ألسنة المؤرخين والدارسين للفرق وتداولوه حتى أصبح كأنه حقيقة مسلمة، وأرجعوا الفضل في اكتشافها إلى "المنهج العلمي" الذي انتهجه المستشرقون!! والمسألة بالنسبة لنا بدهية معلومة من الدين بالضرورة؛ فالكلام في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دين، والدين لا يؤخذ عن المسلم الفاسق، ولا اعتبار لرأيه فيه، فضلاً عن المبتدع الضال؛ كالكعبي (?)، والجاحظ (?)، فضلاً عن الكافر الحاقد كعامة المستشرقين.

والله تعالى قد قال في الفاسقين: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، والحكم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من مجرد الشهادة، لأنه دين واعتقاد، وإذا كان من شريعتنا رد شهادة المسلم الفاسق في دعاوى الحقوق الدنيوية, فما بالك بمن يتجرأ على خيار الأمة وأفضل البشر بعد الأنبياء من الصليبيين واليهود!

لقد مقت سلف الأمة عمرو بن عبيد، وضللوه وبدعوه من أجل طعنه في المقتتلين من الصحابة، هذا مع ما هو مشهور عنه من الزهد والتعبد ومجانبة السلاطين، فكيف يلتفت المسلم إلى آراء أهل الكتاب الذين تغلي مراجل قلوبهم بالحقد على الإسلام، وتنفث ألسنتهم السم الزعاف عليه، وما تخفي صدورهم أعظم؟! فماذا نتوقع من "جولد زيهر" اليهودي إلا مثلما ذهب إليه سلفه عبد الله بن سبأ أو أعظم، وماذا نظن بـ "فان فلوتن، وكريمر وويلهاوسن (?)، ونيكلسون ... " وأضرابهم أن يقولوا، والحرب الصليبية لم تتوقف لحظة واحدة، ولن تتوقف حتى تكون الملحمة مع الروم بأرض الشام بين يدي الساعة كما صح عن الصادق المصدوق؟

وإن من يقبل كلام هؤلاء - بل يجله ويعظمه- يلزمه أن يقبل كلام عبدالله بن سبأ، وحمدان قرمط، وابن الراوندي، وميمون القداح، وابن النغريلة، وإلا فإنه متناقض، أو مخدوع بالمسحة العلمية الحيادية التي يزعمها هؤلاء المستشرقون.

وما كان لنا أن نأبه بآراء المستشرقين ونشغل بردها لا في هذه القضية ولا في ما هو دونها، فنحن لا نتوقع منهم إلا هذا ومثله، فقد تبين لي من قراءة كافية في كتبهم أنهم قوم بهت- كما وصف عبد الله بن سلام رضي الله عنه أجدادهم اليهود- وأنهم لو كان الافتراء على الإسلام في السماء لاتخذوا إليه سلما، ولو كان في الأرض لابتغوا إليه نفقاً.

ولكن اقتداء كثير من الكتاب المنتسبين إلى الإسلام بهم ومتابعتهم لرأيهم، واستناد هؤلاء وأولئك إلى آراء مخطئة أو أقاويل بدعية جعل تبيان هذه القضية أمراً ضرورياً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015