الوجه الثالث: وهذا أصل الوجهين الأولين.

وهو أن المشركين من العرب قد صرحوا واعترفوا بأنهم قد اتخذوا آلهة من دون الله تعالى، شفعاء لهم عند الله سبحانه، وأنهم لا يعبدون آلهتهم إلا ليقربوهم من الله تعالى ومعلوم أن الشفيع غير مالك، وأن الوسيلة ليست هي المقصودة، فالخالق، الرازق، المالك، المدبر عندهم هو "الله" وسبحانه وحده. أما آلهته من دون الله من ملك مقرب أو نبي مرسل أو ولي صالح وغيرهم - فهي للشفاعة لهم عند الله تعالى، وللتوسل إلى الله سبحانه والتقرب إليه عز وجل؛

فقد كان أصل شركهم الوسيلة الشركية.

فقد قال الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18]

وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]

قلت: هذه النصوص صريحة في أنهم كانوا يعبدون آلهتهم لا لأجل أنها خالقة رازقة، صانعة، مالكة، مدبرة للعالم، أو أنها أرباب بهذا المعنى، بل كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والأولياء ليشفعوا لهم عند الله تعالى.

الوجه الرابع: أن كثيرا من كبار أئمة الإسلام وكبار أساطين الكلام من الحنفية الماتريدية، والأشعرية الكلابية -

قد صرحوا - في تصوير عقائد مشركي العرب - بأن أصل إشراكهم بالله تعالى إنما هو التوسل الشركي، وأنهم لم يعبدوا آلهة باطلة من دون الله تعالى إلا رجاء أن يكونوا شفعاء لهم عند الله.

وأنهم لم يعتقدوا في آلهتهم الباطلة أنها خالقة رازقة، صانعة، مدبرة لهذا الكون ومالكه؛

فكيف يصح جعل "الإله" بمعنى "الرب" الصانع، الرازق، الخالق، المالك" لهذا الكون، والمدبر له؟.

وهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أن تفسير "الألوهية" بالمالكية - تعطيل وتحريف، وفيما يلي نماذج من نصوص هؤلاء الأعلام من أئمة الإسلام وأساطين الكلام - على أن أصل شرك مشركي العرب إنما هو التوسل الشركي وأنهم كانوا يعبدون آلهتهم الباطلة ليشفعوا لهم عند الله.

حيث قاسوا الله تعالى على ملك من الملوك الذين لا يتوصل إليهم إلا بواسطة وزرائه وأمرائه:-

1 - الإمام الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ).الذي أحب الكوثري التحاكم والفزع إليه وإلى أمثاله في أصول الدين ومعرفة التوحيد والشرك (?).والذي عظمه الحنفية الماتريدية غاية التعظيم وأثنوا عليه بما لا يخطر بالبال ومن ذلك قولهم في الثناء عليه: "ملك المتكلمين سلطان المحققين" (?).

قال الرازي في تفسير قوله تعالى: وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18]

"ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان، على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل -

فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله. ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق لتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم - فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله" (?).

قلت: تدبر أيها المسلم، في هذا النص للإمام الرازي - ملك المتكلمين وسلطان المحققين - فقد تضمن بنصه ما يلي:

أ- أن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم الباطلة أنها خالقةٌ، رازقةٌ، مكونةٌ، مالكةٌ لهذا الكون.

ب- بل جعلوا هذه الصفات لله وحده وأنه الرازق السيد المالك المدبر لهذا الكون.

ج- وإنما عبدوا الآلهة الباطلة رجاء أن يكونوا شفعاء لهم عند الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015