إن دمَ الوريدِ في رحلتِه من القَدمِ إلى القلبِ يمشي بعكسِ اتّجاهِ الجاذبيةِ الأرضيةِ، فالسائلُ لا يصعدُ إلى أعلى، لذلك لا بد من طريقةٍ، حيث إنّ هذا الدمَ الصاعدَ لا ينزلُ، لحكمةٍ بالغةٍ أرادَها اللهُ، ولصَنعةٍ متقنةٍ حكيمةٍ صَنَعها اللهُ، صَنعَ لهذه الأوردةِ التي تنقلُ الدمَ من القدمِ إلى القلبِ صماماتٍ، هي في الحقيقةِ جيوبٌ، تسمحُ للدمِ أنْ يصعدَ، ولا تسمحُ له أن ينزلَ، جيوبٌ على جدرانِ الأوعيةِ إذا صعدَ الدمُ إلى الأعلى تلتصقُ جدرانُها بجدارنِ الأوعيةِ فيمرُّ الدمُ، فإذا أرادَ الدمُ أن ينزلَ امتلأتْ هذه الجيوبُ، وانتفختْ، وتلاصقتْ حتى تغلقَ الطريقَ على الدمِ، فهذه الصماماتُ التي وضعَها اللهُ في الأوردةِ ما الحكمةُ منها؟ الحكمةُ منها أن تسمحَ للدمِ أن يسيرَ باتجاهٍ واحدٍ فقط دون أن يرجعَ.
لو أنّ هذه الصماماتِ أصابَها الخللُ، فلم تغلقِ الطريقَ على الدمِ لتجمَّعَ الدمُ في الأوردةِ، ولارتفعَ ضغطُ الدمِ فيها، ولخرجتِ الكرياتُ الحمراءُ من جدرانِ الأوردةِ إلى الأنسجةِ، فازرقَّتِ الأرجلُ، وتورَّمت، وشعرَ صاحبُها بألمٍ شديدٍ، إنه مرضُ الدوالي، فعملُ الجيوبِ عملٌ في منتهى الدقةِ والروعةِ.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] .
إنّ دمَ الإنسانِ في رأي أصحاب الاختصاص بمنزلة بحرٍ زاخرٍ بِقِطَعِ الأسطولِ، فهناك سفنٌ للإمدادِ، وهي كريات الدم الحمراءُ، وهناك سفنٌ للدفاعِ، تتمتعُ بقدرةٍ على المناورةِ، والمراوغةِ، والاقتحامِ، وهي الكرياتُ البيضاءُ، وهناك سفنٌ للإنقاذِ من الموتِ المحقَّقِ هي الصفائحُ الدمويَّةُ، وهناك سفنٌ تحملُ الموادَّ الغذائيَّةَ - السكر - وهناك سفنٌ تحملُ الموادَّ المُرَمِّمةَ - البروتين - وهناك سفنٌ تحملُ الفضلاتِ - حمض البول، وحمض اللبن - فالدمُ بحرٌ زاخرٌ بسفنٍ فيها موادُّ، فيه سفنُ إمدادٍ، وسفنُ دفاعٍ، وسفنُ إنقاذٍ، وسفنٌ تحملُ الموادَّ الغذائيةَ، وسفنٌ تحملُ الفضلاتِ، وكلُّ هذه السفنِ تتحركُ بحريةٍ دونَ أن تصطدمَ، ودونَ أن تغرقَ، ودونَ أن يصيبَها عطبٌ.