وكان المعتصم، الخليفة الجديد، ميالًا إلى الكف عن هذه المحنة، إلا أن القاضى المعتزلى أحمد ابن أبى دؤاد أقنعه؛ فيما يقال، بأن من الخطر على سلطان الدولة أن تتخلى عن موقف اتخذته بعد رسميًا. ومن ثم استدعى أحمد للمثول بين يدى الخليفة فى رمضان سنة 319 هـ، ولكنه مضى يرفض القول بخلق القرآن رفضا باتًا، فضرب بشدة ثم سمح له بالعودة إلى داره بعد حبس استمرَّ فى جملته نحوا من سنتين. وعاش أحمد فى عزلة طوال خلافة المعتصم، وامتنع عن إلقاء الدروس فى الحديث، ولما تولى الواثق الخلافة سنة 337 هـ (843 م) حاول أحمد أن يستأنف دروسه، ولكنه لم يلبث أن آثر الانقطاع عنها، وإن لم يكن قد منع رسميًا من إلقائها، وذلك خشية أن يتعرض لنقمة القاضى المعتزلى؛ ولذلك ظل على اعتكافه، بل لقد كان يعمد فى بعض الأحيان إلى الاختفاء -كما يقال- فرارًا من أعدائه (المناقب، ص 348 - 349).
ولما رد المتوكل لمذهب أهل السنة مكانته السابقة بعد توليه الخلافة سنة 232 هـ (847 م) استطاع أحمد أن يستأنف نشاطه فى التدريس؛ ومع ذلك فإنه لم يظهر فى زمرة المحدثين الذين أقامهم الخليفة سنة 334 هـ للرد على الجهمية والمعتزلة (المناقب، ص 356). وقد أدى اختفاء أئمة الشخصيات التى تصدرت فى أيام المحنة إلى تمهيد الطريق لقيام عِشْرَة بين الخليفة وبين الفقيه المستقل الرأى، وأقيل أحمد بن دؤاد من منصبة سنة 237 هـ (852 م)، بل لقد قيل فى بعض الروايات إن خلفه ابن أكثم قد أوصى به أحمد لدى الخليفة (البداية، ج 1، ص 315 - 316، 319 - 339). وأبدى أحمد تقاربًا للبلاط لأول مرة فلم يوفق، وقد ظل تاريخ هذا التقارب وظروفه غامضين (المناقب، ص 359 - 362) ثم دعا المتوكل أحمد إلى البلاط فى سامراء سنة 227 هـ. والظاهر أن الخليفة كان يريد منه أن يعطى دروسًا فى الحديث للأمير الصغير المعتز، ويمكن أيضًا أن نفترض أن الخليفة قد طافت بذهنه فكرة الاستعانة بالفقيه المشهور فى رد مذهب أهل السنة إلى ما كان عليه. وأتاحت هذه الرحلة إلى