ونحن إذا وقفنا عند هذه الأبيات التي تقول فيها مخاطبة ربها:

أحبك حبين: حب الهوى ... وحبا لأنك أهل لذاكا

فأما الَّذي هو حب الهوى ... فذكر شغلت به عمن سواكا

وأما الَّذي أنت أهل له ... فكشفك للحجب حتَّى أراكا

فما الحمد في ذا ولا ذاك لى ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا.

وإذا عرفنا أن هذه الأبيات تنسب إلى رابعة انتهينا إلى أن ذا النون إنما يتحدث هنا عن هذه الزاهدة العابدة العاشقة وعن حبها لله دون أن يذكر اسمها.

وكما كانت رابعة تذهب في حبها الإلهى مذهبًا قوامه الإقبال على الله، وإيثاره على كل من عداه، والتنزه عن عبادته خوفًا من ناره أو طمعًا في جنته، بحيث كانت غايتها القصوى هي أن ينكشف عن عين قلبها عين الحجاب، فتستمتع بما يبيحه الله لها من مطالعة وجهه الكريم، فكذلك كان ذو النون يذهب في حبه هذا المذهب الَّذي جعله يتخذ من الله غايته ومعقد رغبته: فقد

كانت رابعة تناجى ربها بقولها "إلهى، إذا كنت أعبدك رهبة من النار فاحرقنى بنار جهنم، وإذا كنت أعبدك رغبة في الجنّة فاحرمنيها، وأما إذا كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمنى يا إلهى من جمالك الأزلى". وكانت تتحدث عن حبها الإلهى فتقول إنها لم تكن تعبد الله إلا حبًا له وشوقًا إليه. وهذا هو ما يعبر عنه ذو النون تعبير وإن اختلف في بعض تفاصيله عما ذهبت إليه رابعة، فهو يظهرنا من غير شك على أن الفكرة الرئيسية التي انطوى مذهبه في الحب عليها، والغاية القصوى التي كان يرمى في هذا الحب إليها، إنما هي حب الله لذاته، والإقبال عليه ابتغاء لوجهه، دون أن يكون له من وراء ذلك أي مطمع

آخر، كما يدل على هذا كله قوله في هذه الأبيات:

أموت وما ماتت إليك صبابتى ... ولا رويت من صدق حبك أوطارى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015