وكرهًا على الأرض، فانشقت الأرض، فخرجت منها سكرجتان: إحداهما ذهب، والأخرى فضة، وفى إحداهما سمسم وفى الأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا فقلت: حسبى، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلنى (?).
والمتأمل في قوله: "حسبى، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلنى", يلاحظ أنَّه قد تاب وأخذ نفسه بالرياضة والمجاهدة والوقوف على باب المحبوب الحقيقى مجتازًا كل العقبات ومتنقلًا بين جميع المقامات حتَّى ظفر برضا المحبوب الحقيقى عنه وقبوله له. والذي يعنينا هو أن نلاحظ أن ذا النون ما فتئ على هذه الحال من رياضة نفسه ومجاهدتها حينا، ومن اتصاله بالناس وإقباله على نفوسهم حينا آخر، يبصرهم بما فيهم من عيوب، ويدعوهم إلى التوبة عما اقترفوا من ذنوب، سواء أكان ذلك في
الحلقات التي كان يقيمها ويتحدث فيها عن علم الباطن وسلوك طريق الله، أم في أي مكان في أي بلد مما حل به من البلدان.
وليس من شك في أن حياة ذى النون على هذا الوجه قد جعلت منه إنسانا كملت فيه الإنسانية بحيث لم يكن يؤثر بعلمه وخيره أحدا من دون أحد، وإنما المسلمون كلهم لديه سواء، لا يصدر في سلوكه معهم إلا عن حب عميق لهم، وعطف وثيق عليهم. وهو في هذا إنما كان - على حد قول الهجويرى- متشبها برسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] إذ على الرغم من إيذاء الكفار له لم يكن يفتر عن دعائه قائلًا: "اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون" (?)
ولذى النون كرامات كثيرة عددتها وأفاضت فيها كتب الطبقات، وكلها يجعل منه وليًّا من أولياء الله الَّذي أجرى على يديه الخوارق العجيبة.
ولسنا هنا بصدد ذكر هذه الكرامات أو تفصيل القول فيها، ويكفى أن نشير إلى أن كلًّا من أبي نعيم الأصبهانى في حلية الأولياء، والهجويرى في كشف المحجوب، والشعرانى في الطبقات الكبرى، والمناوى في الكواكب الدرية، وفريد الدين العطار في تذكرة الأولياء،