الصوفى. ولهذا كان لابد لنا من أن نعرض لتلك العناصر العلمية والعملية حتَّى نتبين من خلالها آية حياة روحية كان يحياها الرجل فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين أشباهه من بنى جنسه، وبحيث نقف على صورة واضحة لما تلقاه ذلك الصوفى من علم وما أخذ به نفسه من عمل وما لقيه في حياته وفى مذهبه وعقيدته من نعى الناعين وإرجاف المرجفين، وما انتهى إليه أمره من انجلاء غمرة الشك عنه فإذا هو يتجلى على حقيقته في حياته وبعد مماته وليًّا من أولياء الله، ومحبًا أفنى حياته في حب الله، وعارفًا سلك سبيل الحق المؤدية إلى معرفة الله، حتَّى أن الذين سعوا به وشنعوا عليه لدى الخليفة المتوكل أولًا، عادوا فعرفوا له قدره، وأكبروا شأنه، وأقروا بولايته، واحترموا قبره بعد وفاته.
ولعل فيما كتبه أصحاب التراجم والطبقات عن ذى النون معرفين به ومكبرين من شأنه ما يعطينا صورة عامة لما كانت تشتمل عليه الحياة الروحية لذلك الصوفى المصري العظيم: فقد استهل أبو نعيم الأصبهانى ترجمته له بقوله: "العلم المضى، والحكم
المرضى، الناطق بالحقائق، الفاتق للطرائق، له العبارات الوثيقة، والإشارات الدقيقة، نظر فعبر، وذكر فازدجر، أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري رحمه الله تعالى (?) " وذكر المناوى بعض ما ذكره الأصبهانى من الخصائص الروحية لحياة ذى النون، وزاد عليه أشياء لم يذكره الأصبهانى، ولها قيمتها في الإبانة عن بعض الخصائص الروحية الأخرى، فضلًا عما تبينه من منزلة ذى النون في تاريخ التصوف المصري وفلسفته الروحية، وفى هذا يقول المناوى: " ... ذو العبارات الوثيقة، والإشارات الدقيقة، والصفات الكاملة، والنفس العالمة العاملة، والهمم الجلية، والطريقة المرضية، والمحاسن الجزيلة المتبعة، والأفعال والأقوال التي لا تخشى منها تبعة، زهت به مصر وديارها، وأشرق بنوره ليلها ونهارها" (?)؛ وأبان القشيرى عن مكانة ذى النون العلمية
والتصوفية في عصره فقال عنه: "فائق