قاصرًا. وقد أوضحت هذه المحاكمة وضع الأسرة العباسية الحاكمة فى بداية القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) والدور الذى قام به الوزراء الذين جمعت بينهم المصالح المشتركة. وكان العدوان اللدودان للحلاج هما الوزير الشيعى ابن الفرات، والوزير السنى حامد. وقد استهدفت جميع مواعظ الحلاج فى أسواق بغداد التطبيق الصارم لقيم الإيمان على الحياة الباطنة، وإعلان وحدة الحب بين النفس والله: وكلها تدخل فى إطار عقيدة تؤكد تمسكه بمذهب أهل السنة عن بصيرة. ولكن مواعظ الحلاج لم تلق آذانًا صاغية، ليس فى الدوائر السياسية لبلاط الخلافة فحسب، بل فى عالم الفقهاء التقليديين أيضًا، ومعظمهم من المالكية والحنفية، الذين التفوا بهم. ومما يثير الدهشة أن أقوى مؤيدى الحلاج كانوا من الحنابلة الذين كان لتقواهم وقتذاك أثر كبير بين عامة الناس. وكانت مطالب الحلاج بالإصلاح الروحى وأثره فى الناس، مصدر إزعاج لكثير ممن كانوا فى السلطة. وقد أقاموا اتهامهم له على ادعائين:
(1) الاداء الدينى: أقوال الحلاج غير المتزنة التى أثارت مسألة البصيرة الباطنة ومبدأ الكتمان الذى أصبح القاعدة فى دوائر المتصوفة منذ استدعى نورى ومريدوه للمساءلة أمام القضاء عن تعاليمهم فى حب الله. وكانت إحدى نتائج هذا أن الصوفية من أمثال عمر المكى والجنيد اللذين كانا من أصدقاء الحلاج لاماه على التحدث علنا عن رياضته الشخصية وتعبيره عنها بشطحات؛ زد على ذلك أن بعضهم قد جنحوا إلى إنكار النزعات الصوفية، وتلك التى كانت تتعلق "بالحب العذرى" خاصة، وشعروا أن من واجبهم إدانة البحث عن الواحد من خلال الحب المراد وأسلوب مجاهدة النفس. ولربما كان هذا هو السبب الجوهرى فى أن أصبح ابن داود الظاهرى عدوًا للحلاج، ونزع إلى هلاكه. وبعد هذا اتهم الحلاج بالتجديف وادعاء الحلول وحرصه على أن يجعل للشعائر مدلولًا باطنيًا (الطواف بالقلب حول الكعبة سبع مرات") وعد ذلك منة بمثابة رغبة فى إبطال الشعائر نفسها.