بل لجهلائهم أيضًا -كما هي مهمة الدين والغاية من تلاوة كتابه بينهم جميعًا، وهذا التناول إنما يقوم على المشهود البادى من ناحية روعته في النفس، ووقعه على الحواس، وانفعال الناس به؛ لا من ناحية دقائق قوانينه، ومنضبط نواميسه في معادلات جبرية أو أرقام حسابية، أو بيان جاف لخصائصه وحقائقه .. وبقيام هذا التناول على المشاهد، والمدرك بادئ الرأى، والمؤثر في النفس المثير للانفعال، لا يجب الوفاء فيه بحماية الحقائق العلمية، والخصائص المجربة لهذه العوالم الموصوفة والمناظر التي لا يراد من تناولها إلا إثارة الشعور بجلالها وجمالها، ودلالتها على عظمة القوة المدبرة لها المحققة لنظامها، ولو التزم في شيء من هذا تصحيح المقررات العلمية لأخل هذا الالتزام كثيرًا بالأهداف الفنية الوجدانية، التي يريد الدين تحقيقها ونفع الحياة بها عن طريق التأمل التدين، والاعتبار النفسى العاطفى المريح، قبل كل شيء آخر ..
ومن هنا قد يبدو في تعبير القرآن ما يظهر متعارضا مع شيء من المقررات العلمية؛ وإن أمكن التوفيق بينهما. ولا أحسب أن عليه بأسًا بشيء من هذا ولا فيه ضير ... فخير لأصحاب هذه الرغبات الذين يبينون الصدق، أو الإعجاز، أو الصلاحية لكتاب الدين بهذا النحو من التفسير العلمي، خير لهم أن يقدروا مثل هذا الاعتبار، فلا يتكلفون ما يتكلفون من ربط الكتاب بالعلم؛ على أنهم إن كانوا لا بد فاعلين فحسبهم -كما تقدم - ألا يكون في القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية، دون أن يمكن التوفيق بينه وبينها ... وبيان هذا الأصل مما لا يسمح المقام فيه بأكثر مما قيل.
وهناك نواح أخرى من النظر محدثة، تؤيد الرأى القديم الَّذي بينه الشاطبى في كيفية فهم عبارة القرآن؛ وتجعل من الخير ألا توجه العناية إلى مثل هذا الضرب من التفسير العلمي، لأنه ليس بذى جدوى على القرآن نفسه، والقرآن غنى عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الَّذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنسانى الاجتماعى في إصلاح الحياة، ورياضة نفوس الناس جميعًا على اختلاف حظهم من العلوم الطبيعية الرياضية وما إليها.