والمتأمل في هذه الأدوار التي تداولت التصوف يلاحظ أن اللفظ استحدث أول الأمر للعبارة عن معنى الكمال بالتمسك بالشرع والزهد في الدنيا حينما أخذ الناس في مخالطة الزخارف الدنيوية وكاد يطغى حب المال على ما غرسه الدين في النفوس من الورع، فكان الصوفى مخالفًا للجماهير بفقره وورعه، على حين يلتمس غيره المال ويطمع في الغنى.

ثم حدثت العلوم الدينية، وأقبل الناس على الفقه يتنافسون في تدارسه وفي العمل بأحكامه. فأصبح الكمال الدينى الذي يعبر عنه المتصوف شيئًا وراء ما يدعو إليه الفقهاء ويصرفون إليه مجهودهم، هو صفاء القلب وتأثره بالعبادة وحسن الخلق (?).

ولما نشأ البحث في العقائد والتماس الإيمان من طريق النظر أو النصوص المقدسة وتوجهت همم المسلمين إلى التماس المعرفة على أساليب المتكلمين، أصبح الكمال الدينى التماس الإيمان والمعرفة من طريق التصفية والمكاشفة وأصبح عبارة عن بيان هذه الطريق وسلوكها (?).

وشاعت بعد ذلك أقاويل الفلاسفة المتكلمين في الصانع وصدور الموجودات عنه وما إلى ذلك من عوالم الأرواح وشؤون الآخرة، فتكلم الصوفية في كل ذلك على منهجهم الذي لا يعتمد على نظر ولا على نص ولا معرفة إلا من ذاق ما ذاقوا، وهم يرون ما تكلموا به حق اليقين الذي لا يقبل شكا ولا يلحقه بطلان ولا يدركه إلا من بلغ رتبة العرفان، سئل ابن الجلاء ما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015