عاملًا أهم من ذلك في نظرنا ألا وهو أن تدوين التأريخ السياسي قد انتقل في الغالب إلى أيدى العمال ورجال البلاط. وقد أثر هذا التغيير في أسلوبه ومادته وروحه. وقد كان تدوين الحوادث الجارية ميسورًا لدى الكتاب المحنكين وملائما لطبائعهم. وكانت المصادر التي يستقون منها معلوماتهم هي الوثائق الرسمية والصلات الشخصية وما يدور بين العمال وفي دوائر البلاط من أحاديث. ولهذا السبب اختصر الإسناد إلى حد الاكتفاء بإشارة موجزة إلى المصدر، بل إن بعض المصنفين المتأخرين قد استغنوا عنه كلية في كثير من الأحيان. ولكن لم يكن هناك مناص من أن يبدو في روايتهم للحوادث ما عرف عن طبقتهم من التحيز والنظر إلى المسائل الاجتماعية والسياسية والدينية نظرة ضيقة. وخلى المؤلفون جانبًا تلك الفكرة الدينية القديمة التي أضفت على التأريخ رحابته وروعته، وأخذت الحوليات تجنح إلى الاقتصار على ذكر ما يفعله الأمير وما تقوم به حاشيته. ونجد من جهة أخرى أن ما يصنفه الكتاب عن الحوادث السياسية الظاهرة موثوق به- على الجملة- مع مراعاة ما يتقيد به كاتب في خدمة أمير. فالتواريخ المعاصرة لابن مسكويه المتوفى عام 421 هـ (1030 م) ولهلال الصابئ المتوفى عام 448 هـ (1056 م) فيها أثر ينبئ بأن هذين الكاتبين قد أحكما الأخذ بمعيار الدقة وتحررا - إلى حد ما - من سلطان التحيز السياسي. ومما يثبت أن الكتاب كافة قد أخذوا بهذا المعيار ما بقى لنا من مثل كتابى تأريخ مصر والأندلس اللذين ألفهما عبيد الله ابن أحمد المسبِّحى المتوفى عام 420 هـ (1029 م) وابن حيان القرطبي المتوفى عام 469 هـ (1076 - 1077 م).

وكان لصبغ التأريخ بالصبغة المدنية أثر آخر خطير. فقد استعاض المؤرخون عن المبررات الدينية القديمة بالدعوة إلى القيمة الأخلاقية لدراسة التأريخ. فهو عندهم يردد ذكر الفعال الطيبة ويبسطها أمثالًا نافعة في تربية الأجيال القادمة (انظر مقدمة كتاب تجارب الأمم لابن مسكويه، ومقدمة كتاب الوزراء هلال الصابئ). وقد صادفت هذه الدعوة قبولًا تامًّا لدى جمهرة علماء

طور بواسطة نورين ميديا © 2015