النزعة الفكرية كانت بلا شك من وحى العرب كما كانت متصلة بضوابط علم الحديث العربي الصحيح. وقد كان من نصيب الجيل التالي أن شهد أفق الدراسات والبحوث التاريخية ينفسح مداه. فقد عزى إلى ابن إسحاق تأليف تاريخ للخلفاء، وإنما يظهر أن هذا التأليف كان ضيق النطاق مختصر العبارة.
وألف محمد بن عمر الواقدي (130 - 207 هـ = 747 - 823 م) الذي خلف ابن إسحاق كتابًا لم يقتصر فيه على غزوات النبي بل تناول كثيرًا من وقائع تاريخ العهود الإسلامية التالية كما ألف تاريخًا جامعًا تناول فيه الكلام إلى عهد خلافة هارون الرشيد، وبذا اقترب علم التاريخ القائم على الحديث من المادة التاريخية التي جمعها فقهاء اللغة مع الاحتفاظ بأسلوبه الخاص في إيراد الأحاديث. وتاريخ " المغازي " للواقدى هو وحده الذي حفظ كيانه بوضعه الأصلي. ولكن كاتبه محمد بن سعد المتوفى سنة 230 هـ (844 - 845 م) اعتمد على الكثير من المواد التي جمعها ذلك المؤلف في مصنفه "كتاب الطبقات " في سيرة النبي وصحبه والتابعين.
وفكرة تصنيف معجم للتراجم كهذا تدل بذاتها على تطور جديد في فن التاريخ، وتؤيد الارتباط الوثيق بينه وبين علم الحديث، إذ أن هذه المواد جمعت في الأصل بقصد نقد الأحاديث وتمحيصها.
هذا، ولذلك الجزء من كتاب ابن سعد في قالبه الأخير الذي صاغه فيه، أي كتاب سيرة النبي (المجلدان الأول والثاني من الكتاب المطبوع) أهمية من وجهين: الأول أن تاريخ المغازي له تكملة تتضمن أوامر النبي ونواهيه وكتبه؛ وقد قال الواقدي إن ابن سعد استمد بكل ما وقعت عليه يده من الوثائق والأسانيد. وأظهر حجة مما تقدم على ذلك أن. تلك الأجزاء التي أضيفت لأول مرة عن صفة أخلاق النبي وعلامات النبوة كانت ممهدة لما أنشئ بعد ذلك من الكتب في شمائل النبي والدلائل.
ويخطو هذا التطور بنا خطوة أخرى نحو توجيه عناصر الحديث الصحيح في اتجاه آخر من رواية الأحاديث (كما رأينا في ابن إسحاق) لك أن تلتمسه في فن القصاص، ويصور لنا العودة إلى