ذلك أننا نتناول هنا مسألة خاصة بإجراءات عزل، تشبه من بعض الوجوه ما حدث في الأندلس من بعد، حيث خصص حي برمته في قرطبة باسم "ربض المرضى" (انظر - صلى الله عليه وسلم. Levi Hist. صلى الله عليه وسلمsp. Mus.: Provencal, جـ 3، ص 381 - 382، 434).
وكانت إقامة أول بيمارستان حقيقى في الإسلام ثمرة للأثر المتصل الذي أحدثته المدرسة الطبية والمستشفى اللذان كانا قائمين في جنديسابور من أعمال خوزستان، فقد أنشئت هذه المدرسة والمستشفى في ظل الساسانيين، وأرست هذه المؤسسة تقاليدها السريانية الساسانية والهندية ثم الإغريقية أخيرًا، وأدخلتها في العصر العربي، وأحدثت منذ انتقال قصبة الدولة إلى العراق أثرًا عميقًا في تطور الطب العربي، أما من حيث المستشفيات فهان الاتصال بجنديسابور قد أثمر ثمرته في عهد هارن الرشيد (170 - 193 هـ = 786 - 809 م)، فقد وكل الرشيد إلى طبيب نصرانى من هذه المدرسة هو جبرائيل بن بختيشوع إنشاء بيمارستان في بغداد. وفي الوقت نفسه استقدم صيدلانيا بارعًا من جنديسابور إلى بغداد. وقد أصبح ابن هذا الرجل- وهو يوحنا (يحيا) بن ماسويه- رئيسًا للبيمارستان الجديد من بعد (ابن القفطى: تاريخ الحكماء، طبعة ليبير، ص 383 - 284؛ ابن أبي أصيبعة، جـ 1، ص 174 - 175). وكان بيمارستان بغداد الأصلي يقوم في الحى الجنوبي الغربي على قناة كرخايا. وفيه اتبعت التقاليد المتحررة لجنديسابور فقد استجاب الهندى منكه لطلب يحيى بن خالد البرمكى وترجم إلى الفارسية الكتاب الطبى السنسكريتى "سسرتا سمهيتا" (الفهرست، ص 303)، وتقول بعض المصادر إن الرازي حاضَر في هذا البيمارستان.
على أنه ليس من الواضح لدينا مدى استمرار بيمارستان هارون في العمل وحده بهذا الميدان، ونحن نسمع منذ أوائل القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادي) -أو قبل ذلك بشيء من الزمن- بحشد من المؤسسات الجديدة في بغداد: البيمارستان الذي أقامه بدر المعتضدى غلام المعتضد (279 - 289 = 892 - 902 م) في حي المخرم