فَلَا يُهْدَمُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْت مِنْ حُجَّةِ صَاحِبِ الْفُنْدُقِ الْمُوَاجِهِ لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ تَقَدَّمَ فَوْقَ هَذَا أَنَّ هَدْمَهُ وَاجِبٌ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْبِنَاءَ لِتَمْيِيزِ الْقُبُورِ جَائِزٌ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِينَ أَوَّلًا وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْضِيحِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ، وَأَمَّا الْمَوْقُوفُ كَالْقَرَافَةِ بِمِصْرَ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ بِهَا مُطْلَقًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا لِتَمْيِيزِ قُبُورِ الْأَهْلِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا كَلَامُهُ فِي بِنَاءِ الْبُيُوتِ وَالْقُبَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدَّمَ أَوَّلًا أَنَّ الْبِنَاءَ لِلتَّحْوِيزِ جَائِزٌ وَقَبِلَهُ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ وَكَلَامُ ابْنِ الْفَاكِهَانِيِّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ أَقْوَى فِي الْمَنْعِ مِنْ كَلَامِ التَّوْضِيحِ وَنَصُّهُ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ بَشِيرٍ الْمُتَقَدِّمِ.
(قُلْت) هَذَا فِي غَيْرِ الْمَقْبَرَةِ الْمُحْبَسَةِ لِدَفْنِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى النَّاسِ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْوُلَاةِ مَنْ يَهْدِمُ بِمَكَّةَ مَا بُنِيَ بِهَا وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ يَعِيبُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْهَدْمَ.
(قُلْت) فَلَا يَجُوزُ التَّضْيِيقُ فِيهَا بِبِنَاءٍ يَحُوزُ فِيهِ قَبْرًا وَلَا غَيْرَهُ، بَلْ لَا يَجُوزُ فِي الْأَرْضِ الْمُحْبَسَةِ غَيْرُ الدَّفْنِ فِيهَا خَاصَّةً وَقَدْ أَفْتَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ جُلَّةِ الْعُلَمَاءِ بِهَدْمِ مَا بُنِيَ بِقَرَافَةِ مِصْرَ وَأَلْزَمَ الْبَانِينَ حَمْلَ أَنْقَاضِهَا وَإِخْرَاجَهُ عَنْهَا وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ دَخَلَ إلَى صُورَةِ مَسْجِدٍ بُنِيَ بِقَرَافَةِ مِصْرَ الصُّغْرَى فَجَلَسَ فَقِيلَ: لَهُ أَلَا صَلَّيْت التَّحِيَّةَ؟ .
فَقَالَ: لِأَنَّهُ غَيْرُ مَسْجِدٍ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ هُوَ الْأَرْضُ وَالْأَرْضُ مُسَبَّلَةٌ لِدَفْنِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بَالَغَ فِي إنْكَارِ الْبِنَاءِ وَذَكَرَ الْمَفَاسِدَ الْمُرَتَّبَةَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ الْجَمَاعَةُ الْمُتَقَدِّمُونَ أَعْنِي اللَّخْمِيَّ وَابْنَ رُشْدٍ وَعِيَاضًا وَابْنَ بَشِيرٍ وَابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ بَلْ صَرِيحُ كَلَامِ عِيَاضٍ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ أَبَاحَهُ الْعُلَمَاءُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي عَنْ الْمَازِرِيِّ أَيْضًا وَقَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَأَمَّا لَوْ بُنِيَ بَيْتٌ وَحَائِطٌ جُعِلَ لِلْقَبْرِ لِيَصُونَهُ، فَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: جَائِزٌ إلَّا أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى النَّاسِ فِي مَوْضِعٍ مُبَاحٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَا أَعْرِفُ مَنْ قَالَ بِهِ إلَّا اللَّخْمِيَّ قَالَ يُمْنَعُ بِنَاءُ الْبُيُوتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاهَاةٌ وَلَا يُؤْمَنُ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمُتَقَدِّمَ انْتَهَى.
(قُلْت) بَلْ فِي كَلَامِ ابْنِ نَاجِي نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اللَّخْمِيّ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِالْمَنْعِ فَقَدْ تَلَقَّاهُ أَئِمَّةُ الْمَذْهَبِ بِالْقَبُولِ وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الَّذِي تَقَدَّمَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَنَصُّ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ وَلَا بَأْسَ بِالْحَائِطِ الْيَسِيرِ الِارْتِفَاعِ يَكُونُ حَاجِزًا بَيْنَ الْقُبُورِ؛ لِئَلَّا تَخْتَلِطَ عَلَى النَّاسِ قُبُورُهُمْ وَأَشَارَ ابْنُ الْقَصَّارِ إلَى أَنَّ الْبِنَاءَ الْمَكْرُوهَ عَلَيْهَا، أَوْ حَوْلَهَا إنَّمَا هُوَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُبَاحَةِ؛ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَى النَّاسِ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَأَمَّا الْبِنَاءُ فِي مِلْكِهِ، أَوْ مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ جَائِزٌ وَهُوَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ الْقَصَّارِ ظَاهِرُهُ خِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ انْتَهَى.
وَكَلَامُ الْمَازِرِيِّ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ الْقَصَّارِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْبِنَاءَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُبَاحَةِ مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْضِعُ الْمُبَاحُ مَوَاتًا، أَوْ مَقْبَرَةً مِنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ فَتَأَمَّلْهُ.
فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْبِنَاءَ حَوْلَ الْقَبْرِ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْبَانِي، أَوْ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِهِ، أَوْ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ، أَوْ فِي أَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ لِلدَّفْنِ مُصَرَّحٌ بِوَقْفِيَّتِهَا، أَوْ فِي أَرْضٍ مُرْصَدَةٍ لِدَفْنِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ مُسَبَّلَةٍ لَهُمْ فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْبَانِي فَلَا يَخْلُو الْبِنَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لِلتَّمْيِيزِ كَالْحَائِطِ الصَّغِيرِ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ الْإِنْسَانُ قُبُورَ أَوْلِيَائِهِ، أَوْ يَكُونَ كَثِيرًا كَبَيْتٍ، أَوْ قُبَّةٍ، أَوْ مَدْرَسَةٍ وَالْكَثِيرُ إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْمُبَاهَاةُ، أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ يَسِيرًا لِلتَّمْيِيزِ فَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَقُصِدَ بِهِ الْمُبَاهَاةُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمُبَاهَاةُ؛ فَقَدْ قَالَ ابْنِ الْقَصَّارِ هُوَ جَائِزٌ وَظَاهِرُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ وَصَاحِبِ الْمَدْخَلِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ حَيْثُ أَفْتَى أَنَّهُ لَا يُهْدَمُ وَأَمَّا الْأَرْضُ