فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ صَارُوا ظَالِمِينَ لَهُ وَمُدَّعِينَ الزِّنَا عَلَيْهِ وَقَذَفَةً لَهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ لَهُ إلَّا أَنْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ سِوَاهُمْ عَلَى مُعَايَنَةِ الْفِعْلِ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَلَوْ كَانُوا أَصْحَابَ شُرْطَةٍ مُوَكَّلِينَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَرَفْعِهِ أَوْ أَحَدَهُمْ فَأَخَذُوهُ أَوْ أَخَذَهُ فَجَاءُوا بِهِ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا فِي أَخْذِهِ وَرَفْعِهِ مَا يَلْزَمُهُمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَفِي الْوَاضِحَةِ لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا عَلَى رَجُلٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْقَائِمِينَ بِذَلِكَ مُجْتَمِعِينَ جَاءُوا أَوْ مُفْتَرِقِينَ إذَا كَانَ افْتِرَاقُهُمْ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا فَعَلُوا مِنْ قِيَامِهِمْ عَلَيْهِ مُبَاحًا لَهُمْ - وَإِنْ كَانَ السِّتْرُ أَفْضَلُ - لَمْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ إذْ لَمْ يَقُومُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا قَامُوا لِلَّهِ وَقَدْ مَضَى هَذَا الِاخْتِلَافُ مُجَرَّدًا عَنْ التَّوْجِيهِ فِي أَوَّلِ رَسْمٍ مِنْ هَذَا السَّمَاعِ
وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِيمَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَجَازَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَا هُمَا الْقَائِمِينَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِذَلِكَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَامَ فِي حَقٍّ يُرِيدُ إتْمَامَهُ فَهُوَ يُتَّهَمُ أَنْ يَزِيدَ فِي شَهَادَتِهِ لِيُتِمَّ مَا قَامَ فِيهِ وَهُوَ عِنْدِي بَعِيدٌ انْتَهَى. وَكَرَّرَهَا فِي سَمَاعِ أَصْبَغَ مِنْ كِتَابِ الْحُدُودِ وَالْقَذْفِ وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ كَلَامَهُ عَلَيْهَا بِالْحَرْفِ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ قَدَّمَهُ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي آخِرِ الشَّرْحِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ لَفْظَ وَأَصْبَغَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَالَ بَعْدَهُ: وَوُجِّهَ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَامَ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، فَجَعَلَ وُجِّهَ فِعْلًا مَاضِيًا مُسْنَدًا إلَى ضَمِيرِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَذَا رَأَيْته هُنَاكَ مَضْبُوطًا بِالْقَلَمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " بِأَنْ " بِإِدْخَالِ الْبَاءِ عَلَى أَنَّ بِخِلَافِ مَا فِي هَذَا الْمَحَلِّ فَإِنَّهُ وَجْهٌ فِيهِ مَصْدَرٌ مِمَّا يَظْهَرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إدْخَالُ اللَّامِ عَلَى أَنَّ وَالظَّاهِرُ مَا فِي الْحُدُودِ فَلَعَلَّ مَا هُنَا تَصْحِيفٌ مِنْ النَّاسِخِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي تَعْلِيلِهِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ فِي أَوَّل الْكَلَامِ جَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنْ الرَّفْعِ وَعَدَمِ السِّتْر مَكْرُوهًا ثُمَّ جَعَلَهُ مُبَاحًا، وَالْمُبَاحُ مُبَايِنٌ لِلْمَكْرُوهِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْجَائِزَ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمَكْرُوهَ وَالْمُبَاحَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْوَاجِبَ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ عَنْ الْقَرَافِيِّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعَدَاوَةِ قُلْت فَشَهَادَةُ مَنْ رَفَعَ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَى ذَلِكَ مَقْبُولَةٌ وَفِي غَيْرِ الْمُوَلَّى ثَالِثُهَا إنْ كَانَ فِيمَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ الْأَوَّلُ لِلْأَخَوَيْنِ، الثَّانِي لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَا لَا يُسْتَدَامُ تَحْرِيمُهُ، الثَّالِثُ لِابْنِ رُشْدٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْقِيَامَ بِهِ مُتَعَيَّنٌ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَاخْتُلِفَ إذَا قَامَ الشُّهُودُ وَخَاصَمُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ فَأَسْقَطَ ابْنُ الْقَاسِمِ شَهَادَتَهُمْ؛ لِأَنَّ خِصَامَهُمْ عَلَمٌ عَلَى شِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى إنْفَاذِ شَهَادَتِهِمْ وَالْحُكْمِ بِهَا وَشِدَّةُ الْحِرْصِ قَدْ تَحْمِلُ عَلَى تَحْرِيفِهَا أَوْ زِيَادَةٍ فِيهَا قَالَ مُطَرِّفٌ: شَهَادَتُهُمْ تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ فِي حَقِّ اللَّهِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ، مَنْ قَامَ يَطْلُبُ حَقَّ اللَّهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّة وَقَالَ مُطَرِّفٌ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ انْتَهَى. قُلْت وَنَحْوُهُ لِابْنِ رُشْدٍ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ كَلَامِهِ فِي ذِكْرِ الْخُصُومَةِ فَجَعَلَ الْمَازِرِيُّ الْمَانِعَ حِرْصَهُ عَلَى الْقَبُولِ، خِلَافُ كَوْنِهِ الْخُصُومَةَ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ الرُّكْنِ السَّادِسِ مِنْ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْتُمَهَا وَيَلْزَمُهُ إذَا دُعِيَ أَنْ يَقُومَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُدْعَ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَآدَمِيٍّ فَالْأَوَّلُ عَلَى قِسْمَيْنِ مَا لَا يُسْتَدَامُ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَمَا يُسْتَدَامُ فِيهِ فَالْأَوَّلُ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَشِبْهِهِ فَلَا يَضُرُّ تَرْكُ إخْبَارِهِ بِالشَّهَادَةِ