وَأَصْحَابِهِ فَيَجُوزُ لِلَّذِي نَزَلَتْ بِهِ النَّازِلَةُ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيمَا حَكَاهُ لَهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي نَازِلَتِهِ وَيُقَلِّدُ مَالِكًا فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِهِ فِيهَا وَذَلِكَ أَيْضًا إذَا لَمْ يَجِدْ فِي عَصْرِهِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ فِي نَازِلَتِهِ فَيُقَلِّدُهُ فِيهَا.
وَإِنْ كَانَتْ النَّازِلَةُ قَدْ عَلِمَ فِيهَا اخْتِلَافًا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الْعَامِّيِّ إذَا اسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي نَازِلَتِهِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِيهَا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَغْلَظِ الْأَقْوَالِ وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَصْلُحُ لَهَا إذَا اُسْتُفْتِيَتْ أَنْ تُفْتِيَ بِمَا عَلِمَتْهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ إذَا كَانَتْ قَدْ بَانَتْ لَهَا صِحَّتُهُ كَمَا يَجُوزُ لَهَا فِي خَاصَّتِهَا الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ إذَا بَانَتْ لَهَا صِحَّتُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُفْتِيَ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا تَعْلَمُ فِيهِ نَصًّا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَوْ قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ لَهَا صِحَّتُهُ إذْ لَيْسَتْ مِمَّنْ كَمُلَ لَهَا آلَاتُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يَصِحُّ لَهَا بِهَا قِيَاسُ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ الَّتِي يَصِحُّ لَهَا الْفَتْوَى عُمُومًا بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّازِلَةِ، وَعَلَى مَا قِيسَ عَلَيْهَا إنْ قُدِّمَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، وَمِنْ الْقِيَاسِ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قَدْ يُعْلَمُ قَطْعًا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَقَدْ يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ، فَلَا يُوجِبُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ وَلَا يُرْجَعُ إلَى الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ إلَّا بَعْدَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَهَذَا كُلُّهُ يَتَفَاوَتُ الْعُلَمَاءُ فِي التَّحْقِيقِ بِالْمَعْرِفَةِ بِهِ تَفَاوُتًا بَعِيدًا وَتَفْتَرِقُ أَحْوَالُهُمْ أَيْضًا فِي جَوْدَةِ الْفَهْمِ لِذَلِكَ وَجَوْدَةِ الذِّهْنِ فِيهِ افْتِرَاقًا بَعِيدًا إذْ لَيْسَ الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَالْحِفْظِ وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ تَصِحُّ لَهُ الْفَتْوَى بِمَا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ الْمُرَكَّبِ عَلَى الْمَحْفُوظِ الْمَعْلُومِ جَازَ لَهُ إنْ اُسْتُفْتِيَ أَنْ يُفْتِيَ
وَإِذَا اعْتَقَدَ النَّاسُ فِيهِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فَمِنْ الْحَقِّ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يُفْتِيَ حَتَّى يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَيَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لَهُ عَلَى مَا حَكَى مَالِكٌ عَنْ أَنَّ ابْنَ هُرْمُزَ أَشَارَ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ اسْتَشَارَهُ السُّلْطَانُ فَاسْتَشَارَهُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ أَتَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ بَيَانِ صِفَاتِ الْمُفْتِي الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ إذْ لَا تَخْتَلِفُ صِفَاتُ الْمُفْتِي الَّتِي تَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ بَيَانِ مَا يَلْزَمُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ لِمَنْ أَرَادَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنْ يَكُونَ مُفْتِيًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ سُؤَالٌ فَاسِدٌ إذْ لَيْسَ أَحَدٌ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يُفْتِيَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلَا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إذَا قَامَ عِنْدَهُ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ وَلَا يَصِحُّ لَهُ إنْ لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ وَالسُّؤَالُ عَنْ الْحُكْمِ فِي أَمْرِ الْقَاضِي إذَا كَانَ مُلْتَزِمًا لِلْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ وَلَيْسَ فِي نَظَرِهِ مَنْ نَالَ دَرَجَةَ الْفَتْوَى وَلَا هُوَ فِي نَفْسِهِ أَهْلٌ لِذَلِكَ قَدْ مَضَى الْقَوْلُ عَلَيْهِ فِيمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ حَالِ الطَّائِفَةِ الَّتِي عَرَفَتْ صِحَّةَ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّحْقِيقِ بِمَعْرِفَةِ قِيَاسِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ وَذَكَرَ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمَ فِي الْفَرْعِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.
وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَأَمَّا شَرْطُ الْفَتْوَى فَفِيهَا لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِلْفَتْوَى وَقَالَ سَحْنُونٌ: النَّاسُ هُنَا الْعُلَمَاءُ، قَالَ ابْنُ هُرْمُزَ: وَيَرَى هُوَ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ قَالَ الْقَرَافِيُّ إثْرَ هَذَا الْكَلَامِ: وَمَا أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا؛ لِأَنَّ الْحَنَكَ وَهُوَ اللِّثَامُ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ حَنَكٍ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى تَأْكِيدِ التَّحْنِيكِ وَهَذَا شَأْنُ الْفُتْيَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ خُرِقَ هَذَا السِّيَاجُ وَهَانَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ دِينِهِمْ فَتَحَدَّثُوا فِيهِ بِمَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ وَعَسُرَ عَلَيْهِمْ اعْتِرَافُهُمْ بِجَهْلِهِمْ وَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لَا أَدْرِي فَلَا جَرَمَ آلَى الْحَالُ بِالنَّاسِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْجُهَّالِ وَالْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى